أذاعت الجزيرة مباشر ثلاث وثائق مسربة من داخل جهاز النظام المصري، على هذا النحو:
1️⃣ مذكرة من وزير الخارجية سامح شكري إلى السيسي، مختصر محتواها أن شكري يُطلع السيسي على نتائج جولة مفاوضات مع اليونان حول ترسيم الحدود البحرية، بين البلدين، اليونان تريد أن يتم الترسيم وفق قاعدة معينة تجعلها تستولي على 7 آلاف كيلومتر مربع من المياه المصرية (بما تحت هذه المنطقة من الثروات)، ووزارة الخارجية تعتمد قاعدة أخرى في ترسيم الحدود.. والخلاصة كما يقولها سامح شكري إن الخارجية والدفاع والمخابرات والبترول يرفعون التوصية برفض المقترح اليوناني.
2️⃣ مذكرة أخرى من المستشار القانوني لوزارة الخارجية، خلاصتها أن الجانب اليوناني يراوغ ويماطل ويتذاكى ويلعب على الخلاف بين مصر وتركيا لكي يأخذ لنفسه مكاسب غير مستحقة كما يفتقد المصداقية.
هنا لا بد من وقفة قبل الذهاب إلى محتوى الوثيقة الثالثة والأخطر..
إن وجود التوافق المصري التركي كان سيحسم هذا الترسيم بلا شك، فمصر وتركيا هما الدولتان القويتان في شرق المتوسط، وبقية الدول -عدا إسرائيل- لا تساوي شيئا بالنسبة لهما، كقبرص واليونان ولبنان وسوريا.
ولكن العلاقات المصرية التركية لم تصل أبدا إلى هذا التوافق، ففي زمن مبارك كان أردوغان يحاول إنشاء علاقة قوية مع مصر ومبارك هو الذي يرفض ويتمنع، ويحرص على بقائها في خانة الاقتصاد والسياحة لا أكثر. وأما في عهد السيسي فما كان ممكنا لشخصية أردوغان أن يبتلع الانقلاب على أهم حلفائه، ولا أن يقف موقفا عاديا من الانقلاب العسكري وهو الذي قامت سياسته كلها على إبعاد العسكر عن السياسة في بلد الانقلابات العسكرية كل عشر سنوات، ثم التضاد الكامل في السياسات، فالسيسي هو نقيض أردوغان في كل الملفات.
ومع ذلك، فقد ترك أردوغان مساحة تفاهم مع مصر، في مجال الاقتصاد والسياحة، بل وفي مجال السياسة على مستوى الوزراء، واحتفظ بمساحة العلاقة على مستوى الرؤساء كخط أحمر للاعتبارات السابقة. أما السيسي فقد سلك مسلكا خلاصته، التعاون ضد أي مصلحة لتركيا حتى وإن كانت مصلحة مصر متحدة مع مصلحة تركيا.. والتفصيل في هذا يطول وليس هنا مقامه، لكن لئن لم يكن السيسي يهوديا حقا، فإن تفسير سياسته في ملف شرق المتوسط أمرٌ عسير جدًا.
لقد كان يمكن للسيسي أن يتعاون مع تركيا في هذا الملف مع بقاء المعارضات في كل الملفات الأخرى كما تفعل كل الدول عند المصلحة المشتركة، تركيا نفسها تلتقي مع إيران في ملفات وتناقضها في ملفات، كذلك مع روسيا، كذلك مع فرنسا، ومع أمريكا، ومع الكل.. إيران وأمريكا تتحد مصالحهما في العراق واليمن وأفغانستان وتتناقض في سوريا ولبنان والخليج… إلى آخره. المقصود أنه كان ممكنا للسيسي أن يجعل ملف شرق المتوسط نقطة اتحاد مصالح مع تركيا، لكنه سار على عكس هذا الخط.
بعد هذا التوضيح نأتي للوثيقة الثالثة وهي الأخطر:
3️⃣ هذه الوثيقة هي رد السيسي على هذه التوصيات المرفوعة، أي أنها القرار السياسي الذي ستعمل وزارة الخارجية على تنفيذه.. تكشف الوثيقة أن السيسي أحال هذه التوصيات المرفوعة له إلى ورشة عمل عُقِدت في وزارة الدفاع.. انتبه هنا.. (( برعاية المركز الأمريكي للدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS )) وهذه الورشة هي التي صدر عنها التوجه السياسي الذي يقول: بتوطيد العلاقات مع اليونان وقبرص واستكمال متابعة ما يجري في شرق المتوسط، ويطلب السيسي من وزير الخارجية أن يوافق على هذه التوصيات ويعمل بمقتضاها.
وهكذا ترى أيها المواطن المصري العظيم كيف يصنع القرار السياسي في نظام السيسي.. أجهزة الدولة نفسها توصي بالرفض، فيخرج التقرير لورشة عمل برعاية مركز دراسات أمريكي، وعنه تصدر التوجيهات السياسية للوزارات والأجهزة، وهي التوجيهات المعاكسة!
أي أن كل المجهود الفني والقانوني، ومعه الإنفاق المالي، يذهب في النهاية إلى مركز أمريكي، والمركز الأمريكي يُصدر قراره للوزارات -بتوقيع رئيس الجمهورية- بتنفيذ عكس ما أوصت به!!
هذا يفسر لماذا تكثر الكفاءات في أروقة الدولة لكن الدولة تسير إلى الانهيار في كل المجالات، إن صاحب القرار هو الجهة الأجنبية، التي تضع على يدها قفازا اسمه الرئيس.. كما أنه يفسر لماذا منصب الوزير لا قيمة له في الدولة، فضلا عمن هو تحت الوزير.
لا أتذكر الآن في أي مكان قرأت أن الأمور في بلادنا مقلوبة، المتفوقون في أعلى هرم الدرجات الدراسية أطباء ومهندسون وصيادلة، يديرهم الذين حصلوا على درجات أقل منهم من كليات التجارة والاقتصاد إذ هم يتبوؤن مناصب مدراء الشركات والمشروعات، وفوق الجميع عساكر وعناصر أمن كانوا فاشلين طيلة حياتهم الدراسية!
- محمد إلهامي يكتب: معارك المصطلحات في الواقع الإسلامي - يونيو 22, 2023
- محمد إلهامي يكتب: «اليهود في التاريخ الإسلامي» - يونيو 19, 2023
- محمد إلهامي يكتب: «اليهود في ظل الخلافة الراشدة» - يونيو 13, 2023