سوف يكتشف السبسي أنه الخاسر الاكبر لأن تصرفاته لم تعد تصرفات من يقبل الوصف بكونه رجل دولة بحق يريد لتونس العزة ولتجربتها التي استردت بها بعض الإشعاع في العالم النجاح.
فدافعاه الحاليان يعتبران مرضين نفسيين:
1. المرض الأول:
التنافس مع بورقيبة بمحاكاة شكلية لفعل كان فيها فاعلا وشابا وليس منفعلا وفي نهاية عمره العضوي والسياسي.
وهو إذن سلوك ناتج عن عقدة نقص إزاء بورقيبة وليس عن ريادة فلكأنه يقول “ها أنا أقوم بما عجزت عنه في المجلة بتجاوز النص الصريح من أحكام الفرائض”. وقد يربح الرهان لأن النهضة وضعت نفسها في موضع ضعف بما فعلته في التشبث بالحكم لتتحمل نتائج الخسران المبين لحكمه هو الذي لم تكن فيه الا كمبارس.
لكنه ينسى أن مجلة بورقيبة فشلت فشلا ذريعا باعتبار المعطيات المترتبة عليها خاصة إذا جمعت مع تقييد النسل والتحضير المستبد الذي لم يحقق من الحداثة إلا شكلياتها المعيقة للقيام الذاتي لأن تونس ازدادت تبعية ولا تقبل المقارنة مع أي من البلدان التي استقلت في نفس الوقت معها من نمور آسيا كماليزيا مثلا.
ومجرد قياس تونس على فرنسا في المواريث دليل غباء لا مثيل له: ففي اقتصاد بدائي مثل اقتصاد تونس سيكون هذا الإجراء كارثة بكل المقاييس على الزراعة وعلى الأسرة وعلى حرية المرأة وخاصة على التبادل الخارجي للنساء بسبب الحفاظ على الملكية في الأرياف والقرى لأن من يجهل هذه القوانين الانثروبولوجية لا يمكن أن يكون قائدا لدولة.
2. والمرض الثاني:
الانتقام من حركة أراد الحد من دورها بالطرق الخبيثة المتمثلة في الحرب على ما يعتبره سر قوتها في الحكومتين اللتين عينهما-الحرب على الكتاتيب والمساجد والتهديد بتهمة الخطاب المزدوج والتقزيم في التنفيذ رغم كونها الثانية في السلطة التشريعية والابتزاز الدائم فأرعب نموها “المسؤول الكبير”.
وتصور أنه سيحرجها باقتراح هذا القانون الغبي والذي لم يكن بورقيبة عاجزا عن تحقيقه لو لم يكن أكثر ذكاء سياسيا ممن يريد أن يكون ندا له دون الشرعية التاريخية والكاريزما ومعرفة الحدود التي ينبغي للسياسي عدم تخطيها إذا كان بحق يريد تخليد اسمه دون الحرب على المرجعيات الأساسية في حياة الأمم التي تحترم نخبها حضارتها.
وكل من له دراية بهذين الدافعين لم يقع في الفخ إذ كان العلاج مبينا على أسس لم تكن مقصورة على الدفاع بالمرجعية الدينية لأن الحجج الثلاثة التي يستعملها الرئيس والتي كررها في مجلس الوزراء اليوم لا تستقيم ولا تدعم مشروعه: المواطنة والمساواة ومدنية الدولة.
فالمواطنة تتعلق بما هو من الحقوق والواجبات أمام القانون.
والإرث ليس حقا للوارث بل هو حق للموروث لأن تدخل الدولة تصرف غير مشروع في حرية الملكية وفي حرية المعتقد. والوارث لا يصبح وارثا إلا بإرادة الموروث وبحسب معتقده ولا يتدخل القانون في أي بلد ديموقراطي إلا في ما يتركه المالك خارج الوصية بمقتضاهما وعند الضرورة بعد استفتاء. وإذا أمكن الحد من حرية الملكية بالحد من حق الوصية بالاستفتاء فلا يمكن الحد من حرية المعتقد بأي إجراء.
وليحاول مثلا تجريب ذلك على نظام الارث التي يطبقه مواطنون تونسيون من ذوي العقيدة اليهودية إذا كان فعلا مصدقا الكذبة القائلة بأن إجراءه ناتج عن المساواة بين المواطنين.
فهل المواطن المسلم دون المواطن اليهودي أهلا لاحترام حقيه في حرية الملكة وفي حرية التوريث بمقتضى المعتقد؟
وكيف لمن بلغ من الأمر ما بلغ السبسي يمكن أن يفوته أنه مهما بلغ مما يدعيه من علم فإن المشورة واجبة على الحاكم لعلمه أنه فوق كل ذي علم عليم، إن لم يجده في القريب فقد يجده في البعيد؟
هذا إن سلمنا أن الرئيس يعتبر نفسه رئيسا لكل التونسيين وليس لبطانة سيكتشف أنها ربما تتآمر عليه كما حصل لمثاله الأعلى الذي يعلم مصيره المأساوي ممن قربهم فأهانوه ولم يكن ممن تعاطفوا معه أو دافعوا عنه ويحاول الآن الاستفادة من اسمه بادعاء وراثته.
وحتى ابن علي نفسه فقد استهان بالنصائح فأنهى حياته غارقا في الفضائح ونعلم أنه اليوم حبيس صاحب المنشار الذي سيدنس أرض تونس الطاهرة لأنك تتصور أن ذلك قد يفيدك في معركة وهمية لم يربحها بورقيبة ولا ابن علي فكيف بمن هم دونهما قدرات وإمكانات وشروط أهمها طول أمدها. فاهتد هداك الله احتراما لتونس وثورة شبابها.
وليتذكر أنه دعاني ودار بيننا حديث دام ساعة ونصفا شعرت أن كلامه فيه نبرة صدق إذا ما قصه من حياته الشعبية باديتها وحاضرتها وأنه يسعى لتخليد ذكراه في تاريخ تونس فلا تلطخه باتباع الهوى وسماع من لا صاحب لهم غير من يمكن أن ينتفعوا به مما لديه من سلطان لكنه قد يفسدون منزلته في تاريخ تونس بما سينتج عن هذه المعركة الخاسرة التي ستضيع على تونس فرصة النجاح في الانتقال الديموقراطي: هل تراه يسعى بهذه المعارك الزائفة إلى “تمصير” تونس؟ ذلك أني لا أصدق أنه لم يكن بوسعه استعمال الاتحاد كما يفعل الآن بعد أن حصل ما حصل من تغيير للأغلبية بصورة غير شرعية: فأنا واثق أنه يعلم أن كل تغيير للأغلبية دون انتخابات مناف للديمقراطية وكان له عدة طرق لمنعه.
لكن أراد بقصد ممسحة عتبة -باياسون-لمسح فشل مدته في غيره عندما يحين أوان الانتخابات: من هنا المبالغة في نسبة الحكومة إلى النهضة. كان يريد أن يورطها في ما لن تستطيع التفصي منه بالقول إنها كانت تشارك رمزيا وليست هي الحاكمة.
أما خرافة المدنية والسلطة الشعبية فهي أكبر الكذبات الثلاث: ذلك أن السلطة الشعبية ليست مجرد شعار بل هي السلطة التي له بمقتضى ما يعتقده من قيم ومن مرجعيات: فهل وضع في برنامجه الانتخابي علاج هذه المسألة ونال الاغلبية ليطبقها أم هو يريد فرضها دون برمجتها ودون استفتاء شعبي؟
فإذا كان الدافعان مرضيين كما وصفت-وهما حتما كذلك لأن سلوك من هو في سنه بهذه الطريقة الهوجاء لا يمكن أن يفسر بصورة أخرى- فإن الفهم الوحيد لهذا السلوك المرتجل دون دراسة لآثار الإجراء على تماسك الشعب وعلى الانتقال الديموقراطي وعلى التوافق بين القوى السياسية الكبرى لا يكفي فيه المرضان بل لا بد من علة أخرى مضاعفة: إرادة المسؤول الكبير والخرف طمعا في الاستجابة للدافعين.
لست غافلا على أن مشروع القانون سيمر ليس لأن له أغلبية موجبة بل لأن جل القوى السياسية التي ستصوت معه دافعها ليس الإيمان بضرورة الأجراء ولا بجدواه بل إن الكثير منهم لو كان يعتمد على الدراسة الانثروبولوجية لأثره بصرف النظر عن الدين لرفضوه بسبب ما سيترتب عليه.
ولا أصدق أن أحدا ذا عقل يمكن أن يعتبر هذا الإجراء مفيد لتونس ومساعد لها على التقدم والخروج من أزماتها لكن الدافع المشترك بينهم وبينه هو تصورهم أن ذلك سيضعف حركة النهضة وهو الدافع الوحيد. لكني أعتقد أن النهضة يكفيها أن تمتنع عن التصويت حتى يصبح ذلك لفائدتها.
ليس من فائدتها التصويت ضد المشروع.
فلتترك القوى السياسة تحرث في البحر. والحساب قريب وسيرون أنهم ينتقمون من غبائهم وليس من النهضة. وكانت الإمساك عن التصويت يكون أكثر جدوى لو لم تقبل البقاء في الحكم: لو فعلت لكان السبسي يقبل كل شروطها لأنه كان يخشى ما سيحصل له في ما يحاوله الآن.
فحلفه مع اليسار والقوميين والاتحاد سيجعله بحق طرطور ولن يبقى من حزبه ولا من ابنه شيء هذا إن مكنوه من إتمام مدته ولم ينقلبوا عليه فيكون مصيره مصير بورقيبة لأنهم يعلمون أنهم من دون مثل هذا الانقلاب لن يصلوا إلى الحكم ديموقراطيا حتى بالحلف مع الاتحاد وخاصة بعد هذا القانون.
فنصيحتي لكل من يريد أن يصل إلى حكم تونس ديموقراطيا ويسهم فعليا في الانتقال الديموقراطي السلمي أن يحترم ثقافة الشعب ومعتقداته وألا يدخل مع السبسي في صراع على مشروعه. يريد أن يشفى من مرضيه.
فليفعل وسيرى إذا ترشح أو رشح أحدا أنه سيقط من الدورة الأولى.
وليكن واثقا أن المليون امرأة لن تنخدعن به مرة أخرى وخاصة من ستعنس منهن بسبب مشروع قانونه الغبي الدال على الجهل بتبدل المناخ الروحي في البلاد فضلا عن الضرر الذي سيحدثه هذا السخف في التحديث العنيف بقوة الدولة. والأيام بيننا: إذا تركه حلفاؤه الجدد ينهي مدته ولم يعزلوه.
ولن ينفعه لا صاحب المنشار الغدار ولا مرشده الذي يتصور نفسه زعيم سبارتا القبلية ولا السيسي الذي أضاع ولا حفتر.
فمن فقد القدرة على حكيم التدبير سيستبدله المسؤول الكبير كما فعل مع نموذجه دون أن يكبره بكثير.