جاء في الأثر: “ما أظلَّتِ الخضراءُ، ولا أقلَّتِ الغبْراءُ مِن ذي لهجةٍ أصدَقَ من أبي ذرٍّ”.
هذه التزكيةُ حين تصدُرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهِيَ الحقُّ لا ريْبَ فيه ولا يُخالطه شكٌّ، وأبو ذرٍّ كان متَّسقًا مع هذه الصفة وكانت مُطَّرِدةً فيه، لا ينفكُّ منها ولا تنفكُّ منه، كأنما صِيغَ منها وكأنما هيَ معجونةٌ بِنفْسِه الشفيفة.
فهُو قبْل إسلامِه بثلاث سنواتٍ كان يصلِّي لله حيثُ وجَّهَهُ اللهُ، ثم لمَّا بلَغه خبرُ النبوَّة أرسَلَ أخاه لِيُجلِّيَ له الأمرَ، فلم يقعْ منه كلامُ أخيهِ موقعا، فعَزَمَ بِدافعِ الصدقِ في نفسه على الاستيثاق من الخبر، فتِلك النفسُ التي صدَقَتْ ربَّها في الجاهلية تبحث عن ما يعْضدُ خَصلةَ الخير تلك ويُنَمِّيها، فانطلق حتى وجَدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فآمنَ به وصدَّقَ، ثم خرج صادعًا بإسلامِه في ملَأِ قريشٍ وسُرَاتِهِم غيرَ عابئٍ بِنَكالِهم، كأنَّ مُقتضى الإسلام إذ يُلامِسُ قلبَه الصادقَ أن لا يكتُمَه لحظةً في نفسه، أنْ يُبَيِّنَ أنه صادقٌ في اتِّباعِه لهذا الدين القويمِ بالجهر به.
ثم رأى أنَّ كمالَ الصدق في اعتناق الإسلام أن لا يستأثِرَ به دون قومِهِ، فخرج داعيًا إلى الله، فأسلمَ شطرُهُم بدعوته وأسلم الشطرُ الثاني عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأسلَمَتْ قبيلةُ أسْلَمَ، وذلك كلُّهُ بِفَضل الله سبحانه، ثم بِبَركة الصدْق النابعِ من فؤاد أبي ذرٍّ!
ثم جاهَدَ في الله حقَّ الجهاد، وزَهِد في الدنيا أعظمَ ما يكون الزهدُ، وقام بالصحبة أتَمَّ القيام، وكان وزيرًا ونصيرًا راسخَ القدَمِ في الإسلام صادقَ الاستمساك به، فلمَّا كانت غزوةُ العُسْرةِ أبْطَأ به بَعيرُه، فتَرَكه وانطلق سيْرًا على قدمَيْه، فحِسُّ الجهاد في نفسِهِ صادقٌ كَصِدْق لهجته، فلما رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال : ” رحِمَ اللهُ أبا ذرٍّ، يمشي وحدَه، ويموت وحدَه، ويُبْعث يوم القيامة وحدَه”!
ولقد سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه مرَّةً: أيُّكُم يلقاني على الحال التي أُفارقُه عليها؟ فقال أبو ذر: أنا يا رسولَ الله، فزكَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكان أبو ذرٍّ مِن ذلك العهدِ على أَوْضَحِ السبيل، كان له مذهَبُه في المال وهو مخالفٌ لِجَمْهرة الصحابة، لكنه مُتَّسِقٌ مع خَلَّةِ الصدْق في نفْس أبي ذرٍّ، فهُو لم يكُنْ ينهى الناسَ عن الادِّخار ثم يستبقي من ماله شيئا، ولم يُخْلِفْ عهدَه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضاق بشدَّتِهِ أهلُ الشام فكتبوا إلى عثمان، فكتَبَ إليه يستقْدِمُه فقَدِمَ عليه، فأخبَرَه أنَّ الناسَ لا يطيقون من الزهد ما يطيقُ، فسَأله أبو ذرٍّ أن يأذَنَ له بالخروج، فأَذِن له، فخرَج إلى الربَذَة شرْقِيَّ المدينة، وهُو أوَّلُ مَنْ سَكَنها.
ثم حضَرَتْه منيَّتُه، فأَمَر زوْجَهُ أن تضعَه على الطريق لعَلَّ ركْبًا يمرُّون به فيدفنونه، فمَرَّ به ركْبٌ فيهمُ ابْنُ مسعود، فلما رأى أبا ذرٍّ، بكى وذكَر نبوءةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ودفَنَه في ثوبٍ لأحدِ الأنصارِ لم يُخالطْ مالَهُ مالُ سلطانٍ، وصلَّى عليه بأصْحابهِ ثم دفنوه هنالك، ومضى إلى ربِّهِ صادقَ النفْسِ واللسانِ، حافظًا للعهد تقيَّ الجَنانِ!