الأخبار

التفكير تحت وقع الأحداث

By د. عمرو عبد الكريم سعداوي

October 30, 2018

منذ ما يزيد على سنوات سبع دهتنا الحوادث الدهياء التي تفجرت مع أحداث ما سمّى بالربيع العربي في تونس ومصر وليبيا ثم سوريا حيث أصبح وقع الحوادث والأزمات أسرع من تفكير معظم الناس، فنبيت على وقع حدث لنصبح على حدث أشد وقعا، وكل مصيبة هي أعظم من أختها، وماكينات الإعلام القديم والجديد تعمل بوتائر لم تبلغها من قبل؛ وتطرح القضايا وتصنع اتجاهات التحليل وترسم خط سير الأحداث، والخطوط الفاصلة بين المتحدثين وانتماءاتهم وتحيزاتهم المسبقة الواضحة والمعلنة بلا أدنى محاولة ولو مكشوفة للتدثر بأي ديباجات فكرية أو أخلاقية.

حتى أصبح تحليل الأحداث وزوايا النظر لها والموقف منها وجبهة الدفاع عن جهة فيها يتحدد ليس حسب موقف الشخص الفكري والسياسي المسبق، وإنما حسب مكان جلوسه في استاد الحدث (مقصورات النخبة؛ أو جماهير مدرجات الدرجة الثالثة) وتموضع مصلحته وتبعيته الشخصية، فإن كان يجلس في موقع النظام –أي نظام- فهو يرى الحدث الذي يجري أمامه بطريقة لا تماثل تلك التي يراه بها من يجلس في موقع المعارضة –أي معارضة- وأصبح من السهل أن تقرأ تبريرات كل طرف حتى قبل أن ينطقها إذ أنه يتحدث بلسان قومه الأدنيين من الذين يشاركونه نفس الموقع مهما كان تهافت تلك المبررات بل وتفاهتها وسذاجة قائليها، إنما الموقع يفرض الرؤية والموقف والاصطفاف مع قومه مظلومين كانوا أو ظالمين.

وأصبح الجميع إلا من رحم ربي يفكر تحت وقع ومطارق الأزمات وتتابع الأحداث ويلهث خلفها بشكل يجعله لا يلتقط أنفاسه فضلا أن عن يفكر في اتجاهات الأحداث ولا ما ورائها، ولا يمهله الوقت حتى يفكر فيمن يمسك بخيوط اللعبة ويحرك الفاعلين – أو الذين يبدون كأنهم فاعلين- على مسرح الأحداث وأنا من الذين لا يؤمنون بنظرية المؤامرة.

إن ألف باء إدارة الأزمات هو عدم التفكير تحت وقع الأزمة فضلا عن عدم اتخاذ قرارات حاسمة أو تغيير التوجهات الكلية، وعالمنا يعيش منذ هذه السنوات السبع أو يزيد تحت وقع ومطارق أزمات لا تنتهي وتحوّل الناس جميعا إلى محللين سياسيين وخبراء استراتيجيين  ومتابعين شغوفين حتى ابتذلت المعاني وضاعت الدلالات وتلاشت المعايير وأنظمة القياس؛فبتنا لا نفرق بين الخبر والتحليل، ولا بين الحقائق والظنون، ولا بين المعلومة الصحية والرأي الشخصي، حالة من حالات السيولة والضبابية والاختلاط حريّ بها أن تجعلنا نعيد النظر كرة تلو كرة، ولا نتعجل لا في قبول خبر ولا في تصديق مخبر ولا القناعة بتحليل خاصة من هؤلاء الذين يمثلون ضيوفا دائمين على القنوات فيتحركون من هذه القناة لتلك (وكله بحسابه) فيخلقون حالة من حالات التشوش والتعمية التي أحسبها متعمدة، فيربكون المشهد بما يلقونه على مسامع الناس من ترهات ويغيبون وعيهم أو يروجون لمقولات تجاوزها الزمن ولم تعد صالحة للاستهلاك الإنساني.

وفي هذه السنوات السبع زادت أهمية الكتائب الالكترونية أو التي أصبحت تعرف بالذباب الإليكتروني حيث أصبحت مهنة معروفة لها هياكلها المؤسسية ومواردها التي لا تنضب فهناك من يستثمر فيها ليس ليجني المكاسب فقط بل ليجني المصالح والمناصب وشبكات العلاقات التي أصبحت تترجم بلا مواربة ولا خجل لشبكات مصالح وتنفيع ونفوذ.

أيضا استعلن في هذه السنوات ما كان معروفا على استحياء حيث كانت تبعية بعض الصحفيين لدول معينة أو للأجهزة الأمنية والاستخبارية مما يستخفى منه ويمثل عارا على صاحبه يحمله جراء قلمه المأجور أو برنامجه التلفزيوني المأجور أو ضيوفه المأجورين فإذا هذه الجريمة أضحت مما يستعلن به ويفتخر حيث شكلت الأجهزة الأمنية مراكز قوى وأصبح يقاس حجم قوتها بما تملك من أذرع إعلامية تربت على أعين أباها الذي في السفارات أو المباحث أو في المخابرات أو فروع الأمن.

وفي هذه الأجواء الموبوءة انتشرت صناعة الإشاعة والتهويل ورمي الناس بالتهم جزافا “واثبت أنك بريء” بعد أن تكون انتهكت عرضك الألسن والأقلام.

وتحول الشخص المعروف بسيديهاته وسلاطة لسانه إلى رمز مرحلة ودلالة على سطوة السفلة والمجرمين منفلتي العقال والألسن ممن يعف القلم عن ذكر أمثالهم فما إن ينطلقون على شخص مهما عظم مكانه إلا وقد تركوا كرامته جثة هامدة تذروها الرياح.

ويظل السؤال الذي يتردد حائرا: كيف نتحرر من التفكير تحت وقع الأحداث والأزمات؟

كيف السبيل إلى تجنب تلك الطاحونة التي تطحننا: فكرا وعظاما ونحن نشاهد أحداثا تصنع على أعين أصحاب القرار المتلاعبون بالعقول والتوجهات وصناعة الرأي العام؟

خير الكلام:

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّـهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ (سورة سبأ 46)