بحوث ودراسات

د. أشرف عبد المنعم يكتب: إضاءات من المنهج العلمي لابن تيمية (1-2)

By د. أشرف عبد المنعم

March 11, 2023

هل كان ابن تيمية «فقيها وسطيا»؟

إن المتأمل للاختيارات العلمية لشيخ الإسلام ابن تيمية لا ينقضي عجبه وانبهاره، سواء من تعامله مع أدلة الشريعة، أو فهمه لتنوع الأدلة ولعلاقاتها ببعضها البعض ورتبها المتفاوتة،

أو تحريره لأقوال أئمة الإسلام من قبله، أو فهمه للواقع ومراعاة تفاصيله بحيث يتوازن فيه بين الممكن والمطلوب.

فإذا تحول النظر إلى كثير من محبيه في واقعنا المعاصر، والذين يدعون الانتساب لمدرسته العلمية (بحق، أو بغيره)،

فإننا نجزم أننا أمام مستوى آخر في العلم والفهم، بعيدا عن مستوى شيخ الإسلام.

مما يجعلنا نجزم أن تلك الفجوة الهائلة الموجودة بين فهم شيخ الإسلام -رحمه الله- وأفهام أكثر هؤلاء مما يحتاج إلى جهد غير عادي في محاولة ردمها، ليقتربوا من منهجه العلمي بحق.

ولأجل هذا كان الرجاء أن تأتي كتاباتنا هذه فيما يساهم في بيان حقيقة المنهج العلمي لابن تيمية، ولو من بعض الزوايا التي رأينا أنها تحتاج إلى البيان، حين يتوهم التعارض، ويحتاج إلى الترجيح. وجعلناها في ثمانية منطلقات، مرتبة كما يلي:

المنطلق الأول:

التمييز الدقيق بين دلالات الألفاظ (ذات الصلة ببعضها) بما يدفع وهم التعارض بينها.

إذ الألفاظ وعاء المعاني، ولا تقال الألفاظ إلا لتنقل المعاني (سواء أكانت أفكارا، أم مشاعر).

ووجود صلة أو أكثر بين معاني لفظين (سواء أكانا مفردين، أو مركبين) هو الذي يتيح الفرصة لإمكان الوهم بتعارض بين المعنيين المرادين منهما.

وهذا التمييز الدقيق بين دلالات الألفاظ من العلم بـ (حدود ما أنزل الله على رسوله )

والذي به يضبط معنى اللفظ الوارد في الشرع، فلا يدخل فيه ما ليس منه (توهما أنه منه)، ولا يخرج منه ما هو منه (توهما أنه ليس منه).

مثال: لفظي (العذاب) و (العقاب).

ففي الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ أنه قال:

«إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» -وفي لفظ-: «من يُنَحْ عليه يعذب بما نِيحَ عليه»

وفي الحديث الصحيح أن عبد الله بن رواحةَ لما أغمي عليه جعلت أخته تندب وتقول: واعضداه واناصراه.

فلما أفاق قَال: ما قلت لي شيئا إلا قيل لي: أكذلك أنت؟.

وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره فهو مخالف لقوله تعالى:

(ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الإسراء – 15] ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة.

فمنهم من غلط الرواة لها كعمر بن الخطاب وغيره، وهذه طريقة عائشةَ والشافعي وغيرهما.

ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه وهو قول طائفة: كالمزني وغيره.

ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كانت عادتهم فيعذب على ترك النهي عن المنكر وهو اختيار طائفة: منهم جدي أبو البركات.

وكل هذه الأقوال ضعيفة جدا.

والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي موسى الأشعري وغيرهم لا ترد بمثل هذا.

وعائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- لها مثل هذا نظائر ترُدُّ الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه ولا يكون الأَمر كذلك،

ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئا.

وعائشة -رضي الله عنها- روت عن النبي لفظين -وهي الصادقة فيما نقلته- فروت عن النبي قوله:

«إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه»

وهذا موافق لحديث عمر فإنه إذا جاز أن يزيده عذابا ببكاء أهله جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله؛

ولهذا رد الشافعي في مختلف الحديث هذا الحديث نظرا إلى المعنى، وقال: الأشبه روايتها الأخرى: «أنهم يبكون عليه وإنه ليعذب في قبره».

والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، واعتقد هؤلاء أن الله يعاقب الإنسان بذنب غيره…

والمقصود هاهنا أن الله لا يعذب أحدا في الآخرة إلا بذنبه وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى وقوله: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه»

ليس فيه أن النائحةَ لا تعاقب بل النائحة تعاقب على النياحة كما في الحديث الصحيح:

«أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطِران»

فلا يحمل عمن ينوح وزره أحد.

وأما تعذيب الميت:

فهو لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه، بل قال: «يُعذب» والعذاب أعم من العقاب فإن العذاب هو الألم،

وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقابا له على ذلك السبب، فإن النبي قال: «السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه»

فسمى السفر عذابا وليس هو عقابا على ذنب.

والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها، مثل الأصوات الهائلة والأرواح الخبيثة والصور القبيحة،

فهو يتعذب بسماع هذا وشم هذا ورؤية هذا، ولم يكن ذلك عملا له عُوقب عليه، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة وإن لم تكن النياحة عملا له يعاقب عليه؟.

والإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس ويتألم برؤية بعضهم وبسماع كلامه ولهذا أفتى القاضي أبو يعلى:

بأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها كما جاءت بذلك الآثار، فتعذيبهم بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم، ثم النياحة سبب العذاب.

وقد يندفع حكم السبب بما يعارضه، فقد يكون في الميت من قوة الكرامة ما يدفع عنه من العذاب كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة والأرواح والصور القبيحة.

وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب،

وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك: إما بتوبة مقبولة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بشفاعة شفيع مطاع وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته فإنه

(لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)

 [النساء – 48]

 وما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الألم التي هي عذاب فإن ذلك يكفر الله به خطاياه، كما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال:

«ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه»

 [24/270 – 275 – مجموع الفتاوى] .

فخلاصة كلامه:

إن كل عقاب عذاب، وليس كل عذاب عقاب (فالعذاب أعم) .

لا تلازم بين العذاب والذنب، فالتلازم إنما هو بين العقاب والذنب (أي : لا عقاب إلا بذنب).

العقاب لا يكون إلا بكسب العبد، أما العذاب فيكون بكسبه وبغير كسبه (مما يؤلمه).

قد يوجد سبب العذاب، لكن العذاب لا يقع، لمعارض من جهة المكلف، أو لمحض الفضل الرباني.

كل عذاب هو كفارة لصاحبه (عقابا كان أو غيره).

فالميت قد يتعذب (أي : يتألم) بكسب غيره، لكنه لا يعاقب به، والعذاب كفارة له.

ففي هذا المنطلق تضبط العلاقة بين (الألفاظ) ذات الصلة ببعضها.

المنطلق الثاني:

اختيار الأقوال المتوسطة، التي تجمع بين الأدلة التي يعتبرها.

لأن الأصل إعمال كل دليل معتبر، هذا من جهة، فلا ينبغي المصير إلى إهدار أحد الدليلين وإبطال معناه بالكلية.

ولأن الأصل أيضا أن الأدلة متعاضدة لبيان المعنى النهائي المراد، لصدورها عن مصدر واحد لا يمكن أن يتناقض، فلا بد أن يكون المعنى (محل التناقض) غير مراد، وهذا من جهة ثانية.

فيكون في اختيار القول المتوسط هنا إعمال لمجموع الأدلة، واستعمال لها كلها لتحرير الدلالة (المرادة) من بعضها ببعض .

مثال: اختيار (استحباب الوضوء من مس الذكر).

فقد تنازعوا في مس النساء ومس الذكر: هل ينقض؟

فمذهب أبي حنيفة: لا ينقض .

ومذهب الشافعي: ينقض .

ومذهب مالك: الفرق بين المس لشهوة وغيرها. وقد اختلفت الرواية عنه هل يعتبر ذلك في مس الذكر؟

واختلف في ذلك عن أحمد؛ وعنه كقول أبي حنيفة أنه لا ينقض شيء من ذلك وروايتان كقول مالك والشافعي. [21/222 – مجموع الفتاوى].

وسبب ذلك «تعارض الأحاديث فيه» [21/15 – مجموع الفتاوى].

«والأظهر في جميع هذه الأنواع:

أنها لا تنقض الوضوء. ولكن يستحب الوضوء منها. فمن صلى ولم يتوضأ منها صحت صلاته ومن توضأ منها فهو أفضل»

[21/222 – مجموع الفتاوى]

وهكذا صرح به الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وبهذا تجتمع الأحاديث والآثَار بحمل الأمر به على الاستحباب ليس فيه نسخ قوله:

«وهل هو إلا بضعة منك؟»

وحمل الأمر على الاستحباب أولى من النسخ.

 [21/241 – مجموع الفتاوى] .

فخلاصة كلامه:

إن (الأمر) دال على الطلب، لازما كان أو غير لازم (أي : الوجوب، أو الاستحباب).

والمنفي إنما هو (لزوم الطلب)، الذي هو أحد احتمالي دلالة (الأمر).

فبإعمال مجموع الدليلين يظهر أن (الأمر) هنا (للطلب غير اللازم) وهو الاستحباب.

وفي هذا المنطلق تضبط العلاقة بين (المعاني) لكل الأدلة في المسألة [كما كان في مثالنا بين (الطلب) و(نفي الإلزام)].

المنطلق الثالث:

اختيار الأقوال المتوسطة، والتي تكون مركبة من الطرفين، مراعاة لأدلتهما.

فقد تتكاثر الأدلة على قول، ويكون له تعليله الثابت، فلا يمكن المصير (بشكل مطلق) إلى القول الآخر تماما، هذا من جهة.

كما أن القول الأول قد يكون في الأخذ به (بشكل مطلق) إهدار لدليل القول الآخر، من الجهة المقابلة.

فيتعسر التوسط بالصورة التي سبقت في (المنطلق الثاني) إذ لا تجتمع الأدلة بمثله.

فيصار إلى قول (مركب من الطرفين) يراعي دليل كل قول وتعليله،

 فيفاوت في المناطات بحمل كل دليل على حال غير الحال التي يحمل عليها الدليل الآخر،

ليتنزل كل دليل على مناط مختلف عن مناط الدليل الآخر، من خلال تخصيص عموم كل دليل بالدليل الآخر.

مثال: (وجوب غسل الجمعة على من له رائحة، واستحبابه لغيره).

فقد حكى إنه قد «تُنُوزِعَ في وجوبه» [21/311 – مجموع الفتاوى]

فجمهور أهل العلم من المذاهب الأربعة على استحبابه لحديث: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام»

[مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة ] ولغيره من الأدلة.

لكنه قد ثبت أيضا «في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال:

«حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام: يغسل رأسه وجسده»

وهذا في أحد قولي العلماء هو غسل راتب مسنون للنظافة في كل أسبوع وإن لم يشهد الجمعة.

بحيث يفعله من لا جمعةَ عليه.

وعن جابر قال: قال رسول الله : «على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة»

 رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي.

وهذا لفظه وأبو حاتم البستي.

وأما الأحاديث في الغسل يوم الجمعة فمتعددة.

وذاك يعلل باجتماع الناس بدخول المسجد وشهود الملائكة ومع العبد ملائكة وقد ثبت عن النبي أنه قال:

«إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم»

[21/307 – 308 – مجموع الفتاوى].

فكان اختيار الشيخ -رحمه الله- لتنازع الأدلة مع تعليل الوجوب،

أنه «يجب غسل الجمعة على من له عرق أو ريح يتأذى به غيره»

[5/307 – الفتاوى الكبرى] مع ثبوت الاستحباب في حق غيره.

فخلاصة كلامه:

إن أدلة الوجوب قد جاءت (مطلقة، ومعللة).

وإن أدلة التخيير قد جاءت (مطلقة) فقط.

فيختص الوجوب (بحال وجود علته) ويختص التخيير (بحال غياب علة الوجوب).

وهذا المنطلق كالذي قبله، إذ تضبط فيه العلاقة بين (المعاني)، لكن ذلك يكون هنا من خلال تنويع مناطات الأدلة [ كما في مثالنا بين (الإلزام المعلل) و(التخيير المطلق)].

المنطلق الرابع:

اختيار الأقوال المتوسطة التي تجمع بين الأدلة، وبين فهم أكابر الصحابة المعتبر لها.

لأن البلاغ المبين الذي حصل لهذا الدين، تم بوصول ألفاظه ومعانيه إلى المخاطبين به، وشهد لهم بالإيمان الحق ورضي الله عن دينهم (هذا).

ومن هنا كان فهمهم للوحي معتبرا في الحكم على صوابية فهم غيرهم ممن بعدهم، أو خطأ ذلك الفهم.

لكن ذلك الاعتبار له درجات، فما أجمعوا عليه شيء، وما نقل عن بعضهم دون مخالف من طبقتهم شيء آخر، وما حصل فيه الخلاف بينهم شيء ثالث [ولتفصيل ذلك محل آخر].

مثال: (مشروعية الزيادة في مدة مسح الخفين للحاجة).

مع أن «مسحه موقت عند الجمهور؛ فإن فيه خمسة أحاديث عن النبي لكن لو كان في خلعه بعد مضي الوقت ضرر، مثل:

أن يكون هناك برد شديد متى خلع خفيه تضرر كما يوجد في أرض الثلوج وغيرها؛

أو كان في رفقة متى خلع وغسل لم ينتظروه فينقطع عنهم فلا يعرف الطريق؛

أو يخاف إذا فعل ذلك من عدو أو سبع؛ أو كان إذا فعل ذلك فاته واجب ونحو ذلك،

فهنا قيل: إنه يتيمم: وقيل: إنه يمسح عليهما للضرورة.

وهذا أقوى لأن لبسهما هنا صار كلبس الجبيرة من بعض الوجوه فأحاديث التوقيت فيها الأمر بالمسح يوما وليلة وثلاثة أيام ولياليهن وليس فيها النهي عن الزيادة إلا بطريق المفهوم والمفهوم لا عموم له؛ فإِذا كان يخلع بعد الوقت عند إمكان ذلك عمل بهذه الأحاديث.

وعلى هذا يحمل حديث عقبة بن عامر لما خرج من دمشق إلى المدينة يبشر الناس بفتح دمشق ومسح أسبوعا بلا خلع فقال له عمر: أصبت السنة، وهو حديث صحيح.

وليس الخف كالجبيرة مطلقا؛ فإنه لا يستوعب بالمسح بحال؛ ويخلع في الطهارة الكبرى؛ ولا بد من لبسه على طهارة.

لكن المقصود:

أنه إذا تعذر خلعه فالمسح عليه أولى من التيمم وإن قدر أنه لا يمكن خلعه في الطهارة الكبرى فقد صار كالجبيرة يمسح عليه كله كما لو كان على رجله جبيرة يستوعبها.

وأيضا فإن المسح على الخفين أولى من التيمم؛ لأنه طهارة بالماء فيما يغطي موضع الغسل؛

وذاك مسح بالتراب في عضوين آخرين:

فكان هذا البدل أقرب إلى الأصل من التيمم؛ ولهذا لو كان جريحا وأمكنه مسح جراحه بالماء دون الغسل:

فهل يمسح بالماء أو يتيمم؟

فيه قولان. هما روايتان عن أحمد ومسحهما بالماء أصح؛ لأنه إذا جاز مسح الجبيرة ومسح الخف وكان ذلك أولى من التيمم فلأن يكون مسح العضو بالماء أولى من التيمم بطريق الأولى.

[21/177 – 178 – مجموع الفتاوى]

فغلب على ظني عدم التوقيت عند الحاجة كما قلنا في الجبيرة ونزلت حديث عمر وقوله لعقبة بن عامر: «أصبت السنة» على هذا توفيقا بين الآثَار ثم رأيته مصرحا به في مغازي ابن عائد أنه كان قد ذهب على البريد كما ذهبت لما فتحت دمشق ذهب بشيرا بالفتح من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة

فقال له عمر: منذ كم لم تنزع خفيك؟ فقال: منذ يوم الجمعة قال: أصبت

[21/215 – مجموع الفتاوى].

فخلاصة كلامه:

إن الأصل في مسح الخفين : توقيت مشروعيته، للأحاديث (كما هو مذهب الجمهور).

وأثر عقبة بن عامر مع عمر – رضي الله عنهما – يدل على أن الحاجة تسوغ تجاوز التوقيت.

الأولى عدم إهدار أي من (أحاديث التوقيت) أو (أثر عقبة مع عمر [والذي رجح البعض بمقتضاه عدم اشتراط التوقيت]).

فالتوقيت مثل كل (الأوامر الشرعية) مقيد بالإمكان، ويتم تجاوزه (للحاجة، أو للضرورة [على تفصيل ليس هذا محله]).

الإمكان لا ينظر فيه إلى الفعل فقط، بل ينظر فيه إليه وإلى ما يترتب عليه (بمعطيات الواقع) [وهذا عام في مسائل الشريعة].

وعندما تكون البدائل محصورة [هنا: التيمم، أو المسح. لعدم إمكان الوضوء (بالغسل)] فالمختار ما هو أقرب إلى الأصل [وهو هنا: المسح].

في هذا المنطلق نجد ضبطا للعلاقة بين المعنى الذي نفهمه من لفظ (الأدلة) وبين (الفهم) المعتبر في نفس المسألة، والمنقول لنا عن أكابر الصحابة.

المنطلق الخامس:

اختيار الأقوال التي تجمع بين تفسير (دليل المسألة الجزئية) وتفسير (القاعدة) في مسائل الباب المتضمن لها، بحيث يكونان متسقين.

إذ أن وحدة مصدر التشريع مع اتصاف صاحبه بالكمال، تفرض كمال الاتساق بين مسائل كل باب (والذي يشمل نوعا من القضايا المترابطة)، وهذا على مستوى كل باب ابتداء، ثم على مستوى الأبواب المتنوعة انتهاء.

وهذا الاتساق والترابط هو الذي أنتج لنا علم (القواعد الفقهية)، بل إن خروج (إحدى المسائل) عن إحدى القواعد لا يكون على الحقيقة إلا دخولا تحت قاعدة أخرى أقوى أثرا فيها، فهذا الذي علل كونها مستثناة من القاعدة الأولى .

لذلك كانت حقيقة الفقه أن “تجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله، وأن تفرق بين ما فرق الله بينه ورسوله” من خلال إحكام كل من المعاني (الجامعة، والفارقة).

مثال: (مشروعية بيع غير الموجود وقت العقد، مما يكون موجودا وقت التسليم).

«وأما قولهم: السلم على خلاف القياس فقولهم هذا من جنس ما رووا عن النبي أنه قال: «لا تبع ما ليس عندك» وأرخص في السلم»

وهذا لم يرو في الحديث وإنما هو من كلام بعض الفقهاء. وذلك أَنهم قالوا: السلم بيع الإنسان ما ليس عنده فيكون مخالفا للقياس ونهي النبي حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده:

إما أن يراد به بيع عين معينة فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه وفيه نظر.

وإما أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة وهذا أشبه؛ فيكون قد ضمن له شيئا لا يدري هل يحصل أو لا يحصل؟

وهذا في السلم الحال إذا لم يكن عنده ما يوفيه والمناسبة فيه ظاهرة.

فأما السلم المؤجل فإنه دين من الديون، وهو كالابتياع بثمن مؤجل، فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة وكون العوض الآخر مؤجلا في الذمة؟ وقد قال تعالى:

(إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)

[البقرة – 282]

وقال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله وقرأ هذه الآية فإباحة هذا على وفق القياس لا على خلافه.

[20/529 – 530 – مجموع الفتاوى].

فخلاصة كلامه:

إن قاعدة البيع المشروع شاملة لكل صور ما شرع من البيوع، ومنها بيع السلم.

يقاس على مشروعية كون الثمن دينا مؤجلا، مشروعية كون المبيع دينا مؤجلا، فهما العوضان في عقد البيع (الذي هو من عقود المعاوضة، خلافا لعقود التبرع).

وبناء على ما سبق، يتوجه النهي عن بيع غير الموجود إلى أحد معنيين:

إما أن تكون عينا معينة مملوكة للغير، فتكون مقامرة ممنوعة

(ولم يرجح شيخ الإسلام أن يكون هذا هو مقصود النهي، استظهارا من سياق الحديث، وإن كانت صورة محتملة الدخول تحت اللفظ والحكم).

وإما أن تكون عينا موصوفة في الذمة، فلا بد أن يرجع المنع إلى سبب آخر،

وهو عدم القدرة على تسليمه في الوقت المحدد لذلك (وهذا ما رجح شيخ الإسلام أن يكون مقصودا من النهي).

ليكون تفسير النهي «لا تبع ماليس عندك» متسقا مع مشروعية (بيع السلم) و(البيع بالثمن الآجل) في ظل (قاعدة عقود البيع) في الشريعة الإسلامية.

وهذا خلافا لمن اعتبر (بيع السلم) رخصة استثنائية، ليست على (قاعدة عقود البيع) في الشريعة،

والتي تتضمن عنده وجود المبيع وقت العقد عند البائع، وبالتالي جعل النهي في “لا تبع ماليس عندك” شاملا لكل من (وقت التسليم)

[وهذا لا خلاف على دخوله تحت هذا النهي] و(وقت العقد)

[وهذا ما خالفهم فيه شيخ الإسلام لما سبق].

في هذا المنطلق نجد اختياره في فهم دليل المسألة (النهي عن بيع ما ليس عند البائع) وفق ما يتسق مع فهم (القاعدة) في باب البيوع، وترجيح ذلك على ما يجعل مسألة من مسائل الباب استثناء من قاعدته.

يتبع