مقالات

د. إسماعيل علي يكتب: «أردوغان» و«مرسي».. وتطبيق الشريعة

By د. إسماعيل علي

May 23, 2023

من خلال نقاشات وندوات ومحاضرات علمية ودعوية شاركْتُ فيها على مدى الأعوام الأخيرة، وجدْتُ بعضا من الشباب يسلقون الرئيسين «أردوغان» و«مرسي» بألسنة حِدَاد، بل منهم مَن ذهب إلى تكفيرهما؛ بذريعة أنهما لم يُطبِّقا الشريعة الإسلامية!!

والعجيب أنّ الذين قاموا بزرع هذا الفكر وتغذيته، وهم غلاةُ “أدعياء السلفية” ومَن يدور في فلكهم لم يكونوا يقولون بهذا مع «حسني مبارك» أو «القذافي» أو «ابن علي» أو «السيسي»، ولا حتى مع المجرم السفاح «بشار»، ومَن على شاكلتهم.. مع أنهم كلَّهم علمانيون محادّون لله ورسوله، بل ذهب أولئك الغلاة إلى أبعد من هذا؛ وهو التأكيد على أن تلك الطائفة العلمانية من الرؤساء هم «ولاة الأمر» الذين يجب السمعُ لهم والطاعة، وإن جلدوا الظهور، وانتهبوا الأموال!!

ولا أنكِر أنّ بعض أولئك الشباب لديهم غيرة صادقة على الدِّين، وإخلاصٌ في حرصهم على أن يسود شرع الله ويحكم.

لكن الإخلاص مِن غير علم وفهم لا ينفع، بل ربما أدى إلى عواقب وخيمة، كما كان حال الخوارجِ قديمًا، ومَن سار على دربهم حديثًا.

إنّ من المعلوم في الشرع الحنيف أنّ التكليف والجزاء مرتبطان بالاستطاعة.

قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة: 286].

وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن: 16].

وفي هذا -أيضا- إخبارٌ عن عدل الله تبارك وتعالى؛ حيث لا يُلزِم –سبحانه- أحدًا بما فوق طاقته.

ولذلك كان التكليف في الإسلام دائما بما يُطاق.

وقد اتفق الفقهاء والأصوليون على أنه لا تكليف مع العجز.

قال القرافيّ في فروقه: «واعلم أنه يشترط في خطاب التكليفِ عِلْمُ المكلَّفِ، وقدرتُه على ذلك الفعل».

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: «ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فافعلوا منه ما استطعتم» (متفق عليه).

وعن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعتُ رسول الله يقول: «مَن رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (أخرجه مسلم).

وإذا كان الشخص لا يُكلَّف إلا بما يستطيع، ولا يؤاخَذ بما يعجِز عنه في الأمور الفردية أو الشخصية؛ فكيف بالأمور المتعلقة بالأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، وأمورِ الأمة والدولة، التي تتشابك ـ بل تتعارض ـ فيها المصالح مع المفاسد، وتخضع لمؤثِّراتٍ وتحدياتٍ محليةٍ وإقليميةٍ ودوليةٍ لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها ؟؟!!!

وما أحكمَ ما قاله ابنُ تيمية: «فمَن وَلِيَ ولايةً يَقصد بها طاعةَ اللهِ، وإقامةَ ما يُمْكنه مِن دينه ومصالحِ المسلمين، وأقام فيها ما يُمْكنه مِن الواجبات، واجتنابِ ما يُمكنه مِن المحرّمات: لم يؤاخَذ بما يَعْجِز عنه؛ فإنّ تولية الأبرار خيرٌ للأمة مِن تولية الفُجّار» (مجموع الفتاوى).

وتأمل تكرارَ كلمةِ «يمكنه» خلالَ هذا النص القصير !!

والواقع أننا لا يمكن أن نتهم الرجلين في دينهما، وأنهما قد قصّرا في العمل لتطبيق شرع الله في بلديهما؛ لأنهما وَجَدا واقعًا اجتماعيًّا ودستوريًّا وقانونيًّا وفكريًّا متجذِّرًا منذ عقود في نفوس الناس ومؤسسات الدولة، لا يمكنهما تجاوزُه بسهولة، ويحتاج إلى صبر، ومعالجة حكيمة قد تطول، فضلا عن أنّ الرئيس «مرسي» تم الانقلاب عليه قبل أن يتمكن من فعل شيء.

وقد عملا على تطبيق شرع الله على مستوى أنفسهم وأهليهم، ثم حاولا بقدر استطاعتهما العمل على تطبيق ما يمكنهما من شرع الله في الدولة.

قال لي بعض الشباب: إذا لم يستطع «أردوغان» تطبيق الشريعة فليترك الحكم!!

قلت: سبحان ربي !!

تطلبون تنحيةَ حاكمٍ مسلم يغار على دين الله، ويُلزِم نفسَه وخاصتَه بشرع الله، ويحرص ما وسعه الجهد على إعلاء كلمة الله !!

ولمن يتركها؟؟!!

يتركها للعلمانيين والطائفيين الذين أحالوا نهار تركيا إلى ظلام دامس دهرًا من الزمن، وعملوا جاهدين على طمس أيِّ مَعْلم من معالم الدين، وجعلوها ذيلا في ركاب الغرب !!

ثم قلت لهم: إنّ «أصحمة» النجاشيّ -رضي الله عنه- قد أسلم، ولم يتمكن من إقامة شرع الله في الحبشة، بل لم يكن يستطيع أن يجاهر بالالتزام بدينه، وقد ثار عليه أهل الحبشة يومًا، لأنه ترك عقيدتهم الخاطئة في المسيح، وخالف إيمانهم بأنه إله أو ابن إله -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-، وما تخلّص منهم إلا بحيلة -كما روت ذلك كتب السيرة-، مع أنه كان يتربع على هرم السلطة ملِكا حاكما.

فهل طلب منه الرسول أن يترك المُلْك ويعتزل الحكم؛ لأنه لم يتمكن من تطبيق شرع الله في بلده؟؟

كلا .. لم يطلب منه هذا ..

وبقي النجاشيّ رضوان الله عليه في الحكم يصلِح بقدر ما يستطيع، حتى توفاه الله في السنة التاسعة بعد الهجرة.

وقد أخبر النبيُّ المسلمين بوفاته، ونعاه لأصـحابه نعيا رقيقا ودودا مُؤثِّرا، فقال ﷺ: «إنّ أخًا لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه، ـ وفي رواية ـ فاستغفروا له»ـ وصلى عليه، واستغفر له ـ كما ثبت في صحيح الروايات ـ.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.