د. محمد الأسطل

مقالات

د. محمد الأسطل يكتب: توبة الجماعات والحركات (1)

By د. محمد الأسطل

August 19, 2022

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإنَّ للجماعات والحركات توبةً كالأفراد، وجرت العادة في صدر كل عام هجريٍّ أو ميلاديٍّ أن يتواصى الناس بمحاسبة النفس وتقييم الذات والتخطيط لما هو آت.

وهذه المحطات الزمانية ليس لها خصوصيةٌ شرعيةٌ في موضوع هذه المقالة؛ فإنَّ قوةَ الأعمالِ غيرُ منوطةٍ بأوائل الأزمنة؛ وإنما بإقبال الأفئدة، وإنما يعتني بها الناس لوضوحها في مرور محطات الزمن.

وإذا كان الإنسان يقوم بعمليةِ مراجعةٍ شاملةٍ لحياته وأعماله وأفكاره؛ أين أصاب وأجاد؟ وأين أخطأ وأخفق؟.. فإنَّ الجماعات أولى بهذه المراجعة؛ لأنَّ الزللَ في الأفكار والأعمال يتعدى إلى الأتباع، وقد يكونون بالآلاف أو بمئات الآلاف أو بالملايين، فضلًا عن مظنة هيبة الأتباع لمناصحة القادة، أو عدم القدرة على الوصول إليهم، أو عدم تَقَبُّلِ القادة للنصيحة لو وصلت.

وهذا النقدُ المنهجيُّ للأفكار والأعمال أهم ما يكون في تاريخ ذكرى التأسيس؛ لأنَّه تاريخٌ متكرر ويُذَكِّرُ بهذه القضية، وأهل العقل والحكمة في قيادات الجماعات والحركات والمؤسسات لا يذهلون أثناء الاحتفاء بالنجاح والجماهيرية والتمدد عن التقييم والنقد وحمد الله على ما تقدم من حسنات، والتوبة إليه على ما اقتُرِف من سيئات، بل هذا عند التأمل هو الابتهاج الحقيقي، إذ يكون كل عام يمر أشبه بميلادٍ جديد في تاريخ الجماعة.

والواحد منا على المستوى الشخصي في تاريخ مولده يحمد الله أنه بلَّغه هذه السن وأمهله وستر عليه ويسَّر أمره، لكن في الوقت نفسه يكاد يقتل نفسه همًّا أنَّ هذا المقدار من السنوات مرَّ من غير كثير عمل، ومع كثير ذنب وتقصيرٍ وكسل، وتجده يرفع يديه خاشعًا خاضعًا منكسرًا: اللهم منك العفوُ على ما قدَّمت وقصَّرت، ومنك العون لأستدرك ما فوَّتُّ.

وأذكر ثلاث قضايا ينبغي أن تتضمنها بنودُ المراجعة:

الأولى: موقع هذه الجماعة من الأفكار والأشياء والأشخاص:

وبيان هذا: أنَّ الجيل المؤسس يعتني بالفكرة وتقريرها، ويعيش مع المبادئ والقيم ويتجرد لها، ويضحي في سبيلها، ويدفع الثمن من وقته وماله لأجلها، فالعطاء في الجيل الأول أصلٌ والانتفاع أمرٌ مستهجن.

أما الجيل الثاني فهو جيلٌ يعتني بالبنيان الذي أقامه المؤسسون، وإذا امتد به الزمان صار يعظمه من غير أن يدرس عوامل النجاح، وربما صار يحرص على الأنشطة واللقاءات والدورات وبناء المدارس والمؤسسات وغير ذلك من غير أن يقف طويلًا عند الأهداف الجزئية لهذه الأنشطة، وهل تحقق القصد منها أم لا؟.

والتوغل في هذا المسار يجعل الوسيلة غايةً، والغاية رسمًا لا حقيقة.

وإذا وصلت الجماعات إلى هذه المرحلة انحدرت إلى المرحلة التي تليها حيث تعظيمُ الأشخاص، والهيبةُ من مكالمتهم، والتوجسُ من نصحهم، والخوفُ من سخطهم، وصارت تكثر أخبار القيادات في حياة الأتباع والجنود، وربما آل الأمر إلى أن ينقسم الأتباع أقسامًا، وكل قسم يلتف حول شخصياتٍ بعينها.

وفي هذه المرحلة تتغلغل أمراض القلوب، من مثل الكذب وضعف الخوف من الله وعدم التوكل عليه حق التوكل، وتبدل العطاء والدفع إلى الأخذ والانتفاع، وربما صار الإنفاق على برامج العمل أمرًا مستهجنًا، ويبدأ العمل التطوعي في الاختفاء والأفول يومًا بعد آخر.

وأمام هذا المشهد لا بد من الحفاظ على الدائرة الصحية الصحيحة،

وهي التي أشار إليها إمام الفكر التربوي الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في خواتيم كتابه

«هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس» بأن يكون الأشخاص والأشياء في خدمة الأفكار.

وفي هذه الحالة يتسم منهج التفكير بالعمق والشمول، وتدور اهتمامات الأفراد والجماعة حول القضايا العامة الكبرى،

ويتسلم مراكز القيادة الأذكياء الذين يحسنون اتخاذ القرارات ومجابهة التحديات والرقي بالجماعة.

أما إن صارت الأفكار والأشياء في خدمة الأشخاص.. فينتج هنا الطواغيت،

وتصبح السمة الغالبة على المجتمع هي هيمنة محبي الجاه والنفوذ وأصحاب القوة،

وهؤلاء يسَخِّرُون الأفكار والأشياء لمصالحهم الشخصية أو لطوائفهم وعشائرهم،

وينحصر التفكير في أطر الطائفة أو الحزب، ويتصف التفكير بالجزئية والانغلاق.

أما إن صارت الأفكار والأشخاص في خدمة الأشياء.. فهنا تجف مادة الروح، وتطغى المادة،

وتكون الهيمنة لأرباب المال والتجارات، وصانعي الشهوات، وتسود ثقافة الاستهلاك،

وتتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية حتى داخل الجماعات نفسها، ويتوقف التفكير والفهم ويصابان بالشلل،

ويشغل الناس بأشيائهم وحاجاتهم اليومية، وتصبح الأفكار والقيم مادةً استهلاكية تزين بها اليافطات الدعائية، وواجهة المحلات التجارية.

يتبع..