الأخبار

د. محمود حجازي يكتب: القتل الرحيم

By د. محمود حجازي

January 26, 2019

الموت الرحيم أو القتل الرحيم هو مصطلح يصف ما تفعله بعض المستشفيات في بعض الدول الأوربية وأمريكا من قتل للمريض الميئوس من حالته بناء على طلبه الشخصي أو بناء على طلب أحد أفراد عائلته إذا كان فى مراحل مرضه الأخير, وبالبحث على الأنترنت وجدت أن هذا الأمر تتبعه مستشفيات فى أربعة دول أوربية وجميعها تابعة للإتحاد الأوروبي وهى هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ وسويسرا, وفى الولايات المتحدة الأمريكية فإن القتل الرحيم مصرح به فقط في ولايات كاليفورنيا وكوليرادو وأوريجون وفيرمونت وواشنطن ولكنه ممنوع في باقي الولايات…. كانت بداية صدمتى مع هذا الأمر عندما أخبرني صديق أمريكي بأن أسرته تفكر في إجراء عمليه الموت الرحيم لوالدته والتي تبلغ من العمر 95 عاما بسبب مرضها الشديد وتعرضها لألم لا يحتمل وقد كانت أوصت فى الماضي بفعل ذلك حين تعرضها لمرض يفقدها صوابها أو يعرضها لألم يبكيها, دخلت معه في حوار طويل لإقناعه بعدم فعل ذلك فهو خطأ فادح حتى وإن كان بناء على طلب الشخص ذاته أو بناء على وصية رسمية فنحن لا نملك قتل أنفسنا وكل الأديان تحرم ذلك, ولأسباب معينه لم تقوم أسرة صديقي بهذا الأمر وتوفيت والدته بطريقة طبيعية بعدها بشهور…

 

وربما سمع الكثير منا في الأسابيع الماضية عن العالم الأسترالي ديفيد غودال والذي مات عن 104 أعوام بعدما اختار أن ينهي حياته طواعية في إحدى عيادات سويسرا عن طريق الموت الرحيم، ولم يكن عالم البيئة والنباتات الشهير يعاني من أية أمراض، لكنه قال إنه اختار إنهاء حياته بسبب “تدهور نوعية الحياة التي يعيشها مع التقدم في العمر”, وكان قد فشل غودال في الحصول على حق الانتحار في أستراليا، فقرر السفر إلى بازل في سويسرا حيث يمكنه الموت هناك باختياره. وأثارت قضيته اهتماما كبيرا في جميع أنحاء العالم وصرح قبل وفاته بقليل أنه “سعيد لإنهاء” حياته، وقال في مؤتمر صحفي بحضور العديد من أفراد أسرته: “كانت حياتي سيئة خلال العام الماضي، أو نحو ذلك، وأنا سعيد للغاية لإنهائها” , وهذا الحدث ليس حجة على العقل المستنير الذى يدرك تماما أن الروح بيد من منحها وهو الله ولا أحد غير الله يملكها والله هو من جعل حرمة دم الإنسان كحرمة الكعبة…

 

وبالنظر لديننا الحنيف فالانتحار حرام، والانتحار أن يُقدِمَ الإنسان على قتل نفسه بأي وسيلة كانت، كإطلاق الرصاص على نفسه، أو بشربه السمّ، أو إحراق نفسه أو إلقائها في الماء ليغرق، أو بترك الطعام والشراب حتى يموت، كل هذا وأمثاله حرام بالاتفاق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنَ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) متفق عليه.

 

وظاهر النصّ خلود المنتحر في نار جهنم، ولكنه محمول على من استحل قتل نفسه، وحمل بعض العلماء هذا النص على التغليظ للزجر عن هذا العمل الشنيع، وإذا لم يمت من حاول الانتحار فإنه يؤدب وينكر عليه؛ لأنه أقدم على الشروع في قتل النفس المحرمة، ولا دية على المنتحر لأن العقوبة سقطت بالموت، وإنما عليه الكفارة في ماله كما قال صاحب “مغني المحتاج” (4/108): “ويجب بالقتل كفارة…. وبقتل نفسه؛ لأنه قتلُ نفسٍ معصومةٍ فتجب فيه كفارة لحق الله تعالى، فتخرج من تركته”.

 

ولا ينبغي للمسلم أن يتمنى الموت لضُرٍّ نزل به، قال صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) رواه البخاري.

 

قد حرّم الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم الانتحار قال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إن اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، وقال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التَّهْلُكة) وقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلا بِالْحَقِّ) وأما من السنَّة فعن أبي هريرة رَضِي اللهُ عَنْه عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «من تردى من جبل، فقتل نفسه فهو في نار جهنَّم يتردى فيها خالدًا مخلدًا أبدًا، ومن تحسى سمًا، فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنَّم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديده في يده يجأ بها بطنه في نار جهنَّم خالدًا مخلدًا أبدًا» أخرجه البخاري، وعن أبي هريرة رَضِي اللهُ عَنْه قال قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذي يخنق نفسه يخنقها في النَّار والذي يطعنها يطعنها في النار» أخرجه البخاري، وعن جندب رَضِي اللهُ عَنْه، يرفعه إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «كان برجل جراح فَقَتَل نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه، حرَّمت عليه الجنة» أخرجه البخاري وحكم المنتحر في الدُّنْيَا أنّه فاسق بمعصيته، وباغٍ على نفسه يعتزل الصَّلاة عليه أهل الفضل والصَّلاح لحديث جابر بن سَمُرة رَضِي اللهُ عَنْه: «أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، اُتيَ برجل قتل نفسه بمشقاص، فلم يصل عليه» أخرجه مسلم، وفي رواية للنسائي: «أمَّا أنا فلا أصلي عليه». أما غيره من النَّاس فيصلون عليه ويدعون له بالرَّحْمة لأنّه لا يكون مرتدًا بانتحاره ولكنَّه فعل كبيرةً من كبائر الذُّنُوب، أمَّا في الآخرة فهو تحت المشيئة إن شاء عفا الله عنه بفضله وإن شاء عذبه بعدله.

 

فليعلم المسلم أن النَّفْس ملك لخالقها وليس ملكًا له؛ ولذلك لا يجوز أن يتصرف في نفسه إلا في حدود ما أذن له الخالق، ثمَّ إن في الانتحار تسخط على قضاء الله وقدره، وعدم الرِّضا بذلك، وعدم الصَّبر على تحمل الأذى، وهو دليل على ضعف الإيمان واليأس من رحمة الله أرحم الراحمين وقد قال سبحانه: (وَلاَ تَيْأسوأ مِن رَّوْحِ اللّهِ إنه لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ كَفرُّوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أولئك يَئِسُوا مِن رحْمَتِي وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السَّلام: (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إلا الضَّآلُّونَ).

 

وليعلم المسلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فليصبر وليحتسب ذلك عند ربه فعن عائشة – رَضِي اللهُ عَنْها – أن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «ما يُصيب المسلم من نصب ولا وصبّ ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتَّى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» متفق عليه وعن صهيب رَضِي اللهُ عَنْه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «عجبًا لأمر المؤمن، أن أمره كلّّه خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، أن إصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن إصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» أخرجه مسلم.وإذا وجد المسلم نفسه تحدثه بالانتحار أو بشيء من ذلك فعليه أن يكثر من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والاستغفار، والإكثار من عمل الطاعات، وتذكّر الآخرة، وما أعد الله فيها للصابرين من أجر وثواب، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) البقرة/155-157.

 

وأخيرا فإن ثقافة الانتحار من الثقافات الوافدة على مجتمعنا الإسلامي؛ لأن المسلم يمنعه إيمانه بالله من الوقوع في مثل هذه الأعمال وإذا رأيت البعض في بلادنا يقدم على هذا الفعل الشنيع بسبب ظروف اقتصادية أو ظلم أو تعاسة فتذكر أننا جميعا في هذه الدنيا في دار بلاء ومن يعتقد أن هناك سعادة تامة فى هذا العالم فهو واهم فالدنيا دار اختبار وشقاء ولكن الإيمان والصبر يجعل حتى للبلاء طعم طيب يتحمله القلب والعقل, وكفى بالإسلام نعمة نشكر الله عليها حتى نلقاه…