الأخبار

د. محمود حجازي يكتب: سطحية التفكير والشدة المستنصرية

By د. محمود حجازي

November 29, 2018

مما يصيبك بخيبة الأمل أحيانا هو سطحية التفكير وقصور أعمال العقل لدى البعض عندما يعلل شقاء بعض الناس أو مرضهم مثلا ببعدهم عن الله ويبرر سعادة الآخرين بنقاء قلوبهم وخشوعهم وربما قد تكون الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك فالتاريخ يخبرنا بأن أنقى الناس وعلى رأسهم الأنبياء كانوا أكثر الناس شقاء ومعاناة وقصة النبي أيوب عليه السلام خير شاهد وكذلك نبي الله نوح عليه السلام الذي كان يتم ضربه بالعصا يوميا وهو يدعوا الناس لعبادة الله ليل نهار وكان صابرا قانتا وغيرها الكثير, وكلنا نعرف معاناة نبينا الحبيب محمد صل الله عليه وسلم ويكفى ما حدث معه من أهل الطائف, ومن ناحية أخرى فلتتأمل من يحكمون العالم حاليا فبعضهم من أشر الناس وبلادنا العربية خير دليل فقد بات السفهاء والظالمين هم من يملكون الأرض والقول والفعل ,والحديث عن ذلك يطول.

واليوم سنضرب مثالا بمجاعة وشدة عظيمة حدثت لأهل مصر لم يكن لها علاقة بفساد أو ظلم بل بسوء إدارة وقصور تخطيط وهى الشدة المستنصرية فقد كانت من أكثر الكوارث فتكًا وأعتاها قساوة وأبشعها صورًا والتي حدثت نتيجة غياب مياه النيل في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وتحديدا عام 475 هجرية, وقد يظن البعض أن الخليفة المستنصر كان ظالمًا، طالما حدثت في فترة حكمه شدة كالشدة المستنصرية فقد يكون الظلم سببًا منطقيًا لمثل هذه الشدائد، بل إنه هو السبب الذي يتبادر سريعًا إلى أذهان الناس. إلا أن هذا الخليفة كان على العكس تمامًا، فلقد كان حاكمًا عادلًا حسن السيرة محبوب من الناس، ولكن كانت لهذه الشدة أسبابًا مختلفة تماما, وفى رأيي الشخصي قد يكون التخطيط السىء سببا فى الفشل والشقاء مهما كان قلبك نقيا فمسألة التوفيق من الله لها ارتباط وثيق بسعيك وجهدك ورجاحة عقلك فلا يمكن أن تطلب النجاح مثلا وأنت على الفراش غارقا في أحلام اليقظة أو تقوم بالعمل في مكان لا يقدر جهدك مهما كنت مخلصا ومتفانيا وتنتظر نتائج مبهرة, وأحيانا يكون كم النجاح فى حياتك له علاقة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية التي نشأت فيها وربما يخلط البسطاء بين شاب نشأ في أسرة غنية وقد دعمته أسرته بكل شيء وبين شخص أخر نشأ في أسرة فقيرة كانت أسرته في أمس الحاجة لدعمه فضاعت سنوات عمرة ولم يتزوج ولم يحقق أي شيء فيحكم الناس على الأول بالنجاح وعلى الثاني بالفشل وهى نظرة سطحية قصيرة وهذا مجرد مثال, وعلينا أن نعلم أن الله يعلم سرائرنا وما يراه الناس منك هو ناحية واحدة من العملة والناحية الأخرى يعلمها الله ويتحكم فيها أشياء كثيرة كعبادتك ودعائك لله سرا وصدقتك الخفية للفقراء ودعائك لدينك وإخوانك وإصلاحك ذات البين وتمنى الخير للناس وغيرها وكلها عوامل تؤثر حتما في توفيق الله لك ولكن البلاء لا يفرق بين محسن ومسيء وكلنا في هذه الدنيا في دار اختبار…

عندما حدثت الشدة المستنصرية اختفى الخير من مصر لدرجة أن المؤرخون ذكروا حوادث قاسية، فلقد تصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل وخطف الخبز من على رؤوس الخبازين وأكل الناس القطط والكلاب حتى أن بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في حادثة أكلوها فما كان منه إلا أن ألقى القبض على ثلاثة رجال ممن التهموا البغلة وقام بصلبهم، إلا أنه عند الصباح لم يتبقى من هذه الجثث سوى العظام فقد التهمها الناس بسبب الجوع، كما يروي المؤرخون أنه كان هناك زقاق ضيق أطلق عليه الناس اسم زقاق القتل، فالداخل مفقود فقد كان أصحاب البيوت يصطادون المارة عن طريق بعض الخطاطيف لأكلهم وجاع الخليفة نفسه حتى أنه باع ما على مقابر أبائه من رخام , ووصل سعر البيضة الواحدة عشرة قراريط من أجود الأراضي المصرية، وكان يتم  بيع الكلب الواحد لذبحه وأكله بخمسة دنانير وقد ذكر ابن إلياس أن الناس أكلت الميتة وأخذوا في أكل الأحياء وصنعت الخطاطيف والكلاليب لاصطياد الناس بالشوارع  وتراجع سكان مصر لأقل معدل في تاريخها…

كانت هذه الشدة  نتيجة غياب فيضان النيل، وذكر المؤرخون عدد المرات التي ضرب فيها الجفاف مصر، فقد كانت أربعة مرات الأولى أطلق عليها السنوات السبع العجاف وذكرها القرآن في تسع آيات في سورة يوسف، والثانية كانت في عهد الهكسوس واستمرت سبع سنوات، والثالثة وقعت في عهد الدولة الفاطمية وهى الشدة المستنصرية وبلغت ما يقرب من سبع سنوات، أما الرابعة فكانت في عهد خورشيد باشا الوالي العثماني واقتربت من سبع سنوات أيضا, ويذكر أن الحسن بن الهيثم قد زار مصر في عهد الخليفة المستنصر وأشار عليهم ببناء سد عالي على النيل إلا أن مشروعه تم رفضه رفضا تاما من الخلافة فكانت النتيجة ما حدث من شدة, وبعد أن اختفت القطط والكلاب من الشوارع تماما، وظهرت حالات الاختطاف والقتل مع اختفاء الجثة وظل الحال سبع سنوات حتى بات الناس في شدة عظيمة وتعاسة لا توصف استعان المستنصر بالوزير بدر ابن عبد الله الجمالي الذي انقشعت به الغمة وأعاد الله بسببه الخير والرخاء لمصر فكرموه وأطلقوا اسمه على حي الجمالية تخليداً لاسمه, وقد اشترط الجمالي أن تصبح سلطته بعد سلطة الخليفة مقابل حل الأزمة وقد استجاب المستنصر لطلباته وعينه وزيراً للدولة، قام بدر بن عبد الله الجمالي بزراعة الأراضي مع الحراسة عليها وجعل المحصول كله للفلاحين لمدة ثلاث سنوات متتالية، حتى فاض النيل مرة أخرى وغمر الخير البلاد وانقشعت الغمة عن المصريين, وهذا أبرز مثال يوضح أن من ينقذ الأمم هم أهل العلم إن أتيحت لهم الفرصة وباتت لهم اليد العليا أما تلميع السفهاء وإهدار حق العلماء فعواقبه وخيمة,

وأخيرا أرى أن الغباء وحده قد يكون كفيلا بسحب الدول لمؤخرة الركب وأما العلم فيدفع بالأمم للمقدمة وخير دليل ما فعله مهاتير محمد لدولته ماليزيا وبفضله تقدمت دولته وهو فرد واحد وللأسف التاريخ مليء بأمثله لشخص واحد دفع ببلاده للأمام وشخص واحد أضاع البلاد والعباد, حفظ الله بلادنا العربية فلدينا كفاءات في كل المجالات وعلماء أجلاء لا بد من تقديرهم وكم أتمنى أن يأتي اليوم الذي نرى فيه علماءنا قادة دولنا.