د. ممدوح المنير

الأخبار

د. ممدوح المنير يكتب: رفعت الأقلام وجفّت الصحف

By د. ممدوح المنير

August 28, 2020

لقد تعمدت في هذه الشهادة ألا أحلل المواقف والأحداث بعقلية الباحث وآثرت أن يكون الجانب الإنساني فقط هو الحاضر في تفصيلاتها حتى لا أشتت القارئ بين المعلومة والتحليل.

 

وتعمدت كذلك ألا أذكر أسماء الشخصيات التي شاركتني التجربة لأني لم استأذنهم في نشر أسمائهم كما أن ذلك قد يعرضهم لضغوط أمنية داخل مصر هم في غنى عنها، لكني أسأل الله أن يتقبل جهدهم وبذلهم وتضحياتهم وأن يجمعني بهم في الدنيا على خير وفي الآخرة في جنات النعيم .

 

بكل تأكيد هناك آلاف الشهادات التي يمكن أن تروى عمّا حدث في فض الإعتصامين في رابعة والنهضة وهناك آلاف القصص الإنسانية التي يجب أن توثّق حتى تستفيد الأجيال القادمة من هذه التجارب ، لذلك أدعو من تتاح له الظروف أن يوثق شهادته حتى تكتمل الصورة.

 

فمهما كتبت فأنا أكتب فقط من زاوية التجربة التي عشتها وهناك زوايا أخرى عديدة لم تغطها الشهادة يملك كل من شارك في الاعتصام نصيبا منها، بل إنّ شهادتي نفسها لم أتحدث فيها عن كل ما حدث، فهناك تفاصيل وأحداث لم أروها حتى لا تطول الشهادة فقد بدأتها من ليلة الفض ولم أتحدث عن الاعتصام نفسه والذي استمر نحو شهرين.

 

أخيرا لقد ذكرت بعض الموافق التي تعرضت فيها لرحمات الله وحفظه ورعايته ويهمني أن أذكر عدة أمور حول هذه الرعاية الربانية:

 

أولا: أن حدوثها لا يعني تميزاً لصاحبها في علاقته بالله، فو الله لو كان للذنوب رائحة كما قال أحد السلف رضوان الله عليهم لجرى الناس من أمامي، فنحن نعيش بستر الله ونصيب ونخطئ ونسأل الله القبول والمغفرة.

 

كما أن هذه الرعاية الربانية قد تحدث لغير المسلم بل حتى للملحد الذي لا يؤمن بالله، لسبب واحد فقط، هو أنّ من سنن الله في كونه التي لا تتغير ولا تتبدل أن العدل أساس الملك وأن الله ينتصر للمظلوم و يشمله برعايته حتى لو غير مسلم حتى يقتص له، فبالعدل قامت السماوات والأرض.

 

ثانيا: أهم درس ممكن أن يتعلمه أحد ويجعله نبراسا له من هذه الشهادة بل يعلقها أمامه دائما هو أنّ فريضة نصرة الحق والدفاع عن المظلومين والتمسك بالدين لا تقدم أجلا ولا تؤخر رزقا.

 

من لا يزال يظن بعد هذه الشهادة أن النفع والضر بيد أحد غير الله، فهو لم يستفد شيئا مما قرأ وأضاعه وقته، لقد اجتمع كل أسباب الدنيا لكي أموت يومها لكنّ تقدير الله كان النجاة لا الموت لي ولغيري، وهناك من أستشهد منذ اللحظة الأولى، إنه الله ولا شيء سواه من يقرر متى وكيف وأين.

 

حين أتأمل التجربة التي عشتها، لا يأتي في عقلي ووجداني سوى معنى واحد، هذه الحياة ما هي إلا مسرحية كبيرة ونحن جميعا «كومبارس» نؤدي أدوار محدودة خير أو شر ثم نختفي من المشهد ويأتي غيرنا وهكذا، أما البطل والمخرج والمنتج وكاتب السيناريو فهو الله جل شأنه وعز سلطانه وله المثل الأعلى.

 

لقد جاءني خاطر منه سبحانه أنني سأصاب الآن وقد حدث، ثم خلعني من عالم الأسباب فسخر لي إثنين حملوني على دراجتهم النارية، وعندما جلست وحيدا خارج الميدان بعد أن تركوني سخر لي من أعرف ويعرفني ليبقى معي ثم سخر لي السيارة التي توقفت وفيها شابين لا أعرفهم  ثم مررنا بكمائن الموت فأعمى أبصارهم وطاشت رصاصتهم ثم سخر لي الطبيبة الفاضلة ثم المركز الطبي ثم من يحملني خارج القاهرة ثم من يكمل علاجي ثم من يعطيني مفتاح بيته دون أن أطلبه!

 

حين تتأمل كل هذه المحطات تجد أنني لم أفعل أي شيء ولم أبادر لشيء أو أسعى إليه للنجاة بنفسي!

 

لقد أراد هو وحده أن أعيش وألا يصيبني منهم أذى أكثر مما قدره هو في السيناريو المكتوب في اللوح المحفوظ من قديم الأزل، فقال كن فكان بلا حول مني ولا قوة، وهناك من اصطفاه الله شهيدا أو أسيرا لأن هذه أيضا أرادته وليس إرادتهم هو فعلهم نعم المجرمون ولكنها إرادة الله التي لا يغيرها بشر.

 

(واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، ….، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) الحديث، فلماذا نخاف إذا من سلطان أو ظالم؟!، ولماذا نسكت عن نصرة الحق والمستضعفين في عالمنا الإسلامي؟

 

لقد كان هناك أناس لم يكونوا معتصمين بل كانوا رافضين للاعتصام وضد الرئيس مرسي واعتقلوا وبعضهم قتل بالخطأ على أيدي الشرطة، فلا الإقدام يقصّر الأعمار ولا الجبن يدفع الأقدار.

 

فإلى المعتقلين الذين يقرأ بعضهم كلامي هذا الآن وإلى أسرهم وأسر الشهداء والمطاردين، لا يسخطن أحدكم على أقدار الله فهو وحده الضار والنافع ولا يصير في ملكه إلا ما يريده، فالرضا والتسليم بما أمر هو عين راحة القلوب والأبدان.

 

إنّ كثيرا ممن يسخطون على أمر الله فيهم، الدنيا في نظرهم متاع كبير فيحزنون على ما فاتهم منها ويقارنون أنفسهم بغيرهم ولو علموا حقيقتها وأنها ظلّ شجر زائل لا محالاة لاستراحوا وتحول بلائهم إلى نعمة بالرضا والصبر الجميل.

 

فلا تحزنوا على ما فاتكم من أمر الدنيا، خذوا بالأسباب لدفع الضرّ عنكم كما أمرنا الله لكن دون تنازل في دين أو خلق، ولا تتعلقوا بها فهي وهم وكل ما سوى الله لا شيء، فالأسباب لا تضر ولا تنفع ولا تقدم ولا تأخر، هو الله وحده مالك الأمر والنهي والضرّ والنفع.

 

إلى الثائر أو المجاهد أو الأخ الذي باع قضيته أو تزاحمت عليه الهموم والغموم…

 

إلى الذي ربما انقلب على عقبيه فلم يبع القضية فحسب بل انتقل إلى الجانب الآخر مع الظالمين يبحث لنفسه عن الأمان والاستقرار بينهم كما يظن….

 

إلى الأخت التي تنازلت في أخلاقها وحجابها حتى تتواءم مع العهد الجديد.

 

إلى الذي سافر وأصبح كل همه حياته وزوجته وأولاده أو إقامته في دولة ما،  فآثر الصمت والذبول طلبا للعيش الرغيد الآمن وهو يستطيع أن يتحرك دفاعا عن دينه ويبذل ولكنه آثر الراحة.

 

إلى الذي خدعوا أنفسهم وزينوا لأنفسهم القيام بنوافل الأعمال إرضاءً لضمائرهم وتركوا فرائض نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وإقامة الدين وتعبيد الأرض كل الأرض لله رب العالمين، إيثارا للسلامة وبحثا عن الجهاد اللذيذ الذي لا تعب فيه ولا مشقة ولا مخاطرة ولا منغصات ولا كدر ولا تعكر في المزاج!

 

أقول لكم ولنفسي قبلكم إن موطننا هناك وراحتنا هناك وسعادتنا هناك والنعيم الأبديّ الذي لا ينفذ هناك ولقاء الأحبة محمد وصحبه رضوان الله عليهم جميعا هناك، في الجنة بإذن الله، موطننا الأوّل ونسأل الله أن يكون الأخير، اللهم آمين.