د. ممدوح المنير

الأخبار

د. ممدوح المنير يكتب: كيف تواجه الأمة الهجمة عليها؟

By د. ممدوح المنير

March 13, 2020

تعيش الأمة العربية والإسلامية فترة حالكة السواد من تاريخها، إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق. ولسنا في معرض تعديد مظاهر هذا التردي في حال الأمة، فقد أصبح معلوما بالضرورة لكل ذي عقل وقلب.

 

هذا التردي لم يكتفِ بهدم البنيان والعمران، بل امتد إلى الإنسان ذاته، بل ذهب إلى أعمق من ذلك؛ إلى السعي الحثيث لاجتثاث البذور والجذور من دين وقيم وأخلاق، التي تقوم عليها المجتمعات، وتبنى بها الحضارات.

 

ووسط هذه الهجمة الشرسة التي لم يسبق لها مثيل في ضراوتها ووحشيتها، تقف جموع كبيرة من شعوبنا عاجزة عن الفعل، أو يائسة منه، أو نفضت أيديها وانشغلت بنفسها، وبما تحت قدميها.

 

وتحت وطأة المعركة المحتدمة، تظل هناك فئة قابضة على الجمر هنا أو هناك، ثابتة في الميدان، تقاتل وتكافح في كل سبيل، قد تختلط عليها الأمور، أو تلتبس عليها الأحوال، لكنها ماضية في طريقها، لا يضرها من خذلها.

 

لكن يظل هناك خلل كبير قائم، وهو أن الجهود مشتتة، والمعارك مبعثرة، وهو ما يجعل كثيرا من هذه الجهود لا تثمر تقدما في الميدان، ولا تعظيما للإمكانات ولا تركيزا للأهداف. وهذا المقال هو محاولة متواضعة للفت الانتباه إلى ما يجب أن يكون.

 

وبطبيعة الحال لا يكفي مقال، ولا عدة مقالات، ولكنها نقاط مضيئة لإنارة الفكر، وإثراء النقاش، وإنضاج الرؤى لدى المهتمين بشأن الأمة ومستقبلها.

 

والفئة المستهدفة من هذا المقال هم علماء الأمة ومفكروها وقادة الرأي والعلم بها، والمتصدرون للشأن العام، ثم شباب هذه الأمة؛ فهي تناقش مستقبلهم ومستقبل دينهم وأمتهم خلال الخمسين عاما القادمة على الأقل، وما يجب أن يفعلوه من الآن، إذا أردنا أن نكون أهلا لهذا الدين ولهذه المهمة الجليلة النبيلة.

 

الاستراتيجيات العليا لصد الهجمة:

 

⚡️ أولا: تثوير الإقليم أو أقلمة الثورة:

 

لا حل حقيقيا ما لم يكن هناك تعاضد وترابط وتوحد بين الأمة، فلا يكفي أن يهتم المصريون بثورتهم، ولا السوريون بمعركتهم، ولا السودانيون بأزمتهم، بل يجب أن تكون هناك غرفة عمليات مشتركة لإدارة الصراع على كل الجبهات، والاستفادة من الخبرات والإمكانيات، وتوزيع الجهود.

 

فالعدو واحد، والخطة المطبقة على الأمة واحدة، والوسائل ثابتة، وهناك سعي حثيث وجهد في الشر مبذول من حلف الشيطان في القاهرة أو الرياض أو أبو ظبي أو دمشق أو تل أبيب أو واشنطن وغيرهم. فهناك تحالف وتعاضد وتوزيع للجهود والأدوار للقضاء على الأمة، وإماتة كل عوامل النهوض بها.

 

لقد كتبت في هذا المعنى مرارا منذ بداية ثورات الربيع العربي، وأسميته تثوير الإقليم، أي إن الحل لن يكون قُطريّا، بل إقليميّا. فهذه نقطة عليا في إدارة الصراع، ولا حل لما تواجهه الأمة من وجهة نظري سوى بتوحيد الجهود من المحيط إلى الخليج.

 

⚡️ ثانيا: الحفاظ على القلاع الباقية وتقويتها (الدول الحاضنة):

 

من خلال التجارب المعاشة في عالمنا العربي والإسلامي خلال العقود الماضية، ثبت أن الأكثر صمودا ومرونة في مواجهة الهجمة الشرسة، هي المناطق التي تمتلك السيادة وأدواتها الفاعلة، أو حتى بعضها، وهي: الأرض، والسلاح، والمال، والرضا الشعبي، والعلم والتكنولوجيا، والمعلومات، والطاقة، والموارد.

 

وكل من افتقد أدوات السيادة هذه لم يستطع الصمود الميداني، وإن حافظ بعضهم على الصمود الأخلاقي المعنوي. وهذه الفرضية التي أطرحها تتطابق مع جميع الكيانات، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، سواء جماعات أو كيانات إرهابية أو جهادية أو سياسية أو اجتماعية أو إسلامية أو علمانية.

 

فالإخوان المسلمون، كحركة إصلاحية سلمية، لم تستطع الصمود الميداني في أي دولة وجدت فيها؛ بسبب افتقادها مظاهر السيادة، وإن كانت حافظت على صمودها الأخلاقي.

 

الجماعة الإسلامية في مصر، التي تبنت في بداية عهدها العمل المسلح في مواجهة الدولة، لم تستطع كذلك الصمود الميداني؛ لافتقادها كذلك مظاهر السيادة سالفة الذكر، وإن احتج البعض بامتلاكها السلاح كأحد مظاهر السيادة، فهو بطبيعة الحال احتجاج غير منطقي، إذا ما قورن بسلاح الدولة وقدراتها، فضلا عن افتقادها لمظاهر السيادة الأخرى.

 

في حالة تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة (داعش) كانت النتيجة مشابهة، فبرغم امتلاكهم السلاح والتمويل والأرض، إلا أنهم لم ينجحوا ميدانيّا كذلك؛ بسبب الخلل الهائل في ميزان القوى، فضلا عن افتقاد الرضا الشعبي والطاقة والموارد (المستمرة).

 

على العكس، لدينا نماذج استطاعت الصمود في المعركة بدرجات مختلفة؛ لامتلاكها مظاهر السيادة كاملة، وإن تباينت نسب كل عنصر فيها. فتركيا كدولة امتلكت مظاهر السيادة كاملة، وإن كان بصور أضعف في عنصري الطاقة والسلاح، ولكن وفرة العناصر الأخرى ساعدت في صمود الدولة، والتغلب نسبيّا على نقاط الضعف لديها، حتى أصبحت تصنِّع 80 في المائة من سلاحها، وهي في طريقها لاستكمال الباقي.

 

قطر امتلكت كذلك مظاهر السيادة كاملة، وإن كانت بصورة أضعف في عنصر الأرض؛ نظرا لطبيعة الجغرافيا، والمحيط العدائي، والقاعدة الأمريكية بها. ورغم أن هوامش مناوراتها ضعيفة في ظل الهيمنة الأمريكية على الخليج، إلا أنها استطاعت الصمود كذلك، والمناورة للبقاء، والتعاطي مع الهجمة.

 

حركة حماس، رغم انتمائها الفكري لمدرسة الإخوان المسلمين، إلا أنها الوحيدة في فروع الإخوان التي استطاعت الصمود ميدانيّا؛ لامتلاكها كذلك لكل مظاهر السيادة، وإن كان بدرجة أقل في عناصر السلاح والطاقة والتكنولوجيا، لكن باقي عناصر السيادة الأخرى ساعدتها على المناورة والبقاء، رغم المحيط العدائي الكامل لها، الذي يسبقها بمراحل عديدة في مظاهر السيادة جمعاء.

 

وبناء على الفرضية السابقة، تكون إستراتيجية إدارة الصراع في هذه النقطة، هي أنه ينبغي على الأمة الحفاظ على هذه القلاع الباقية، وزيادة تحصينها. ليس بالضرورة أن نكون متفقين معهم في جُلِّ سياساتهم، وليس بالضرورة أن كل ما يفعلونه صواب، بل هناك أخطاء بكل تأكيد، وبعضها كارثي كذلك.

 

لكننا هنا نتحدث عن الاستراتيجيات العليا، وليس عن نقاط تفصيلية، أو حدث بعينه قد نختلف معهم فيه أو نتفق.

 

ومهمة الأمة ونخبها الواعية المخلصة هي أن تكون أذرعا وروافد لتقوية القلاع الباقية والحفاظ عليها، مع التأكيد أن النماذج التي ذكرتها هي على سبيل المثال لا الحصر، فلا تزال هناك قلاع أخرى باقية بدرجات مختلفة من الصمود، ودورنا نحوها لا يختلف عن النماذج التي تحدثت عنها.

 

وهنا قد يتساءل متسائل عن العلاقة الإستراتيجية بين التصدي للهجمة على الأمة والحفاظ على الدول أو الكيانات التي أسميتها بالقلاع الباقية، وهو ما ينقلنا إلى النقطة الثالثة في الجزء الثاني بإذن الله.

 

⚡️ ثالثا: عصر الحضارة الغربية:

 

تعلمنا من سنّة التاريخ أن هناك دورة حياة للحضارات والأمم، بين ميلاد وضعف، ثم نمو وتقدم وازدهار، ثم ثبات لفترة ما، يعقبه تراجع وتأخر، ينتهي بالاندثار. ولا يكون الاندثار إلا بوجود حضارة أخرى قد تقدمت وازدهرت على حساب الحضارة المندثرة، حتى يدور الزمان وتبدأ دورة حياة جديدة لهذه الحضارة أو تلك.

 

وهذه السنة الكونية الربانية تنطبق على جميع الحضارات، مشرقها ومغربها، مسلمها ومسيحها، وثنية أم ملحدة.. وبناء على هذه التوطئة، علينا أن نفهم ونستوعب أننا نعيش في عصر الحضارة الغربية، وأن سيادة الحضارة الغربية مستمر معنا لعدة عقود، طالت أم قصرت. والإقرار بهذه الحقيقة مهم للغاية في فهم الصراع وطبيعة المواجهة، كما سنوضح لاحقا.

 

والإقرار بهذه الحقيقة لا يعني بالضرورة الرضا بها والاستسلام لها، فالأمران مختلفان تماما لأصحاب العقول والأفهام.

 

وعليه، واستنادا إلى الحقيقة السابقة، أو الفرضية لمن شاء، فأنت مضطر لأن تخوض المعركة داخل ملعب الحضارة الغربية، ووفق قوانينها. ورغم أنه من المنطقي لن يصل بك هذا ظاهريا إلى النتيجة المرجوة؛ لأنهم لن يسمحوا لك بذلك، إلا أنّك لا تملك خيارا آخر؛ لافتقادك على مستوى الأمة لمظاهر السيادة التي تؤهلك لأن يكون لك ملعبك الخاص، وقوانينك الخاصة في إدارة الصراع.

 

فأدوات السيادة جميعها موجودة بدرجات مختلفة لدى الأمة، لكنها في الحقيقة لا تملكها، ولا تسيطر عليها، عدا القلاع الباقية بدرجات متفاوتة، بسبب النظم الوظيفية التي تحكمنا، والتابعة للغرب.

 

وبالتالي، فإن أي حركة أو كيان يستهدف التصدي للهجمة على الأمة لا بد أن تكون له نقطة ارتكاز مع أحد القلاع الباقية؛ حتى تستطيع أن تحتمي بمظاهر السيادة لديها في عملك وحركتك، لكنك في نفس الوقت لا تستهدف صراعا وجوديّا، حتى لو كنت مؤمنا بأنه صراع وجودي؛ لأنك باختصار تعيش مرحلة الضعف، وفي مراحل الضعف يعتبر التعايش والبقاء والمناورة وكسب النقاط المرحلية وإعادة بناء الذات والقوى؛ هو الهدف الاستراتيجي للمرحلة، خصوصا وأن الصراع بين الحضارات في هذا الزمن يختلف جذريّا عن العصور السابقة. فالصراع الحضاري كان غالبا (إذا نحَّينا الجانب الديني والأخلاقي) يُحسم بالكم وليس بالكيف في المقام الأول، فعناصر القوة لدى الحضارات المتصارعة كانت واحدة، والخلاف في الوفرة والكم.

 

فسلاح الفرسان والمشاة أو السيف والرمح ونحو ذلك كان لدى الطرفين، وتحسم النتائج بالوفرة العددية على حساب القِلة.

 

على عكس الصراع الحضاري الحالي، فالفارق لصالح الغرب ليس في الوفرة أو الكم فحسب، ولكن في الكيف كذلك، وبفارق شاسع بين الحضارتين.

 

فالفارق العلمي والتكنولوجي هائل، واعتمادنا شبه كامل على الغرب في كل شيء للأسف، في مأكلنا ومشربنا ودوائنا وتسليحنا وجُل مناحي الحياة. والأمر كما قال الشيخ الغزالي رحمه الله (بتصرف) وهو يأسى على تخلفنا الحضاري: لو قيل لكل شيء في بلاد الإسلام عُد من حيث أتيت، لخشيت أن يمشي الناس حفاة عراة.

 

فهذا المقال مثلا أكتبه بجهاز مصنوع غربيّا، وسأرسله عبر بريد الكتروني يملكونه، كجيميل وغيره، وسوف ينشر على شبكة الإنترنت في مواقع هم من يملكون أسماءها، ومواقع استضافتها لديهم، ولو شاءوا في لحظة واحدة لأوقفوا الجهاز الذي أكتب عليه، وأغلقوا الإنترنت، واستولوا على البريد الإلكتروني، والموقع الذي سينشر عليه المقال!!

 

إن المال الذي بين أيدينا هم من يطبعونه ويعطونه القيمة، ولو قرروا أن يجعلوه ورقا للنظافة لفعلوها بين عشية وضحاها!!

 

لذلك كثيرا ما أندهش حين أجد بعض الكيانات التي تمارس العمل السياسي، أو تتصدَّر للرأي العام، تنشر خطابات وبيانات تحوي مصطلحات صدامية وتعبوية، وهي لا تملك من أمرها شيئا، بل تعتمد اعتمادا كلّيّا على أدوات الخصم في عملها، ولو شاء بضغطة زر لأعادها إلى عصر الإبل والدواب!! فتصبح أقرب للطفل الصغير الذي يقف بجوار رجل طويل القامة مفتول العضلات، والطفل يصرخ فيه متوعدا، بينما ينظر إليه الرجل في سخرية، وهو بالكاد يصل إلى ركبتيه!!

 

إن الإقرار بهيمنة الحضارة الغربية هو اعتراف بالواقع، وليس قبولا به، ويعني التعامل وفق جملة أهداف واقعية وقابلة للتحقيق كما ذكرت آنفا، وتجنيب النفس التدمير والإفناء في صراعات لا تملك أيّا من أدواتها، ولا حتى تسعى إلى ذلك، بينما الطرف الآخر يملك كل الأدوات ويطورها وينميها، بل يبذل كل جهد لمنعك من الحصول عليها.

 

هذا الفهم لطبيعة السيادة الغربية سيجعلك أكثر حكمة في التعاطي مع المرحلة التي تمر بها الأمة، وكيف تتحرك داخل حدود ملعبها، ووفق قوانينها؛ لتبني قواك الذاتية، وتصنع وتنتج عناصر السيادة الخاصة بك، لا أن تحوزها فحسب.

 

وهذا الإقرار لا يعني كذلك الاستسلام والانبطاح والهزيمة النفسية أمامهم. وأقرب مثال عملي للطريقة المنشودة هي ما تحاول فعله القلاع الباقية التي تحدثت عنها، فهي في صراع مستمر مع الخصم، لكن دون الدخول في مواجهات مهلكة. كما أنها (القلاع) تناور وتتقدم وتتراجع وتلتف على حسب هامش الحركة أمامها، والنظرة بعيدة المدى في مآلات الأمور. وبطبيعة الحال، وسط خضم هذه المعارك اليومية تحدث الأخطاء، و تتراكم الخبرات، وتنضج التجارب.

 

⚡️ رابعا: المصالح هي اللغة التي يفهمها الغرب:

 

لقد بُنيت الحضارة الغربية على المادة أو الرأسمالية كنظام حياة فلسفي واقتصادي واجتماعي في ذات الوقت، وهو في جوهره عبودية للمال واللذة. واستيعاب هذه النقطة جيدا وحسن استثمارها كفيل بفتح الأبواب المغلقة، والفوز من موقع غير متكافئ معهم، فكلما استطعت إدارة الصراع بمنطق المصالح لا الأيديولوجيا، كلما حققت قفزات في المعركة لصالحك، والشواهد على ذلك كثيرة ومتنوعة.

 

وهنا قد يحتج محتج بأن الصراع أيديولوجي كذلك، وسيدلل على ذلك أيضا.. وليس لديَّ خلاف مبدئي على هذه النقطة، لكني أتحدث هنا عن إدارتك للصراع وليس عن منطلقاتك حوله. كما لا ننسى أننا نتحرك من موقع ضعف في مظاهر السيادة لا القوة، وبالتالي فأنت تتحرك وفق المتاح والأفضل لك، وليس ما تتمناه وترجوه.

 

كما أن التجربة العملية أثبتت أن كثيرا من دعاوى الأيديولوجيا المرفوعة غربيّا سرعان ما تسقط وتُنسى أمام بريق المال أو المصلحة المرجوة، وعلاقة الاتحاد الأوروبي بتركيا في كثير من محطاتها دليل واضح على ما أقول.

 

⚡️ خامسا: الصراع من جانبنا ليس صفريّا حتى لو أرادوا هم ذلك:

 

وأقصد بالصراع الصفري أننا كمسلمين أصحاب رسالة ومبدأ وقيم عُليا، وليس غايتنا من الصراع مع الغرب هو إفناؤه أو تدميره، حتى لو أرادوا هم لنا ذلك.

 

وقواعد الإسلام صارمة وواضحة في هذا الشأن، فنصوص القرآن والسنة تُحرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ والمسالمين الآمنين، أو ما يسمى حاليا بالمدنيين غير المحاربين. قال تعالى: “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” (البقرة: 190)، فالأمر هنا بقتال من يقاتلك فحسب، مع نهي تحريمي واضح في تجاوز ذلك.

 

ولا تقتصر قواعد الإسلام في الحروب، سواء كانت دفاعية أو هجومية، على ذلك، بل تحرم إهلاك الحرث وقطع الأشجار، أو ما يسمى حاليا بالحفاظ على البيئة. وأوضح النصوص في ذلك هو ما قاله سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأحد قادة جنوده: “ولا تُغرِقُوا نَخلا، ولا تَحرِقُوا زَرعا، ولا تَحبِسوا بَهيمة، ولا تَقطَعُوا شجَرة مُثمِرة” (تخريج مسند أبي بكر: 12).

 

بل إن الإمام الأوزاعي قال: “لا يحلّ للمسلمين أن يفعلوا شيئا مما يرجع إلى التخريب في دار الحرب؛ لأن ذلك فساد، والله لا يحب الفساد”.

 

وهذه المبادئ سارية إلى يوم القيامة في قواعد الاشتباك والحرب، وهناك خلاف فقهي معتبر بين العلماء؛ ليس على أصل المبدأ، ولكن على أحكام الضرورة الحربية حين تحدث، وهذا باب عظيم في الفقه الإسلامي يمكن الرجوع إليه في مصادره المعتبرة.

 

هذه المقدمة ضرورية لفهم استراتيجية إدارة الصراع، فهي دفاعية في المقام الأول، هدفه الأسمى حفظ الأرواح (غير المحاربة) والعمران، وتعبيد الناس لله بلا إكراه، وليس الهدف تخريبيّا تدميريّا.

 

حتى في ما يعرف إسلاميا بجهاد الطلب أو الغزو لفتح البلدان، فهو في جوهره كذلك دفاع عن المظلومين والمستضعفين، وحرب على الذين يقفون بين الناس وحرية اختيارهم لعلاقتهم بالسماء.

 

ومن ثم، وأنت تسعى لامتلاك أدوات ومظاهر السيادة، لا تغيب هذه الأهداف السامية عنك. وقد يفهم البعض كلامي هذا خطأ، بأن ذلك يعني قبول الاستباحة لأرواحنا كما يحدث الآن، وبالطبع لم يخطر ذلك في بالي لحظة واحدة، فالسعي لامتلاك مظاهر السيادة، وبالقوة والكفاءة نفسها التي لدى الخصم، هي فريضة استراتيجية وشرعية لتحقيق الردع المطلوب، وتحقيق توازن الرعب، ومنع الاعتداء.

 

لكن في وقت الاستخدام واحتدام الصراع، تراعى المبادئ العليا التي جاء بها الإسلام، مع مراعاة أحكام الضرورة التي تقدر بقدرها، كما يقررها أهل الاختصاص من العلماء.

 

إن كثيرا من شعوب الغرب نظرتها عن الإسلام مشوهة؛ بسبب ضعفنا وتخلفنا الحضاري.. إنها عطشى إلى الإسلام، ولكننا نقدمه لها ماء آسنا ملوثا، وليس صافيا كما جاء إلينا.

 

لنتخيل معا أن الأمة امتلكت مظاهر السيادة كاملة، بل أصبحت أقوى من أعدائها، فهل لنا أن نتخيل مثلا أنها ستدخل حربا مفتوحة تبيد فيها البشر والحجر، كما حصل في الحرب العالمية الثانية، التي تشير الإحصائيات إلى قتل ما يزيد عن 62 مليون إنسان فيها، منهم 18 مليون عسكري والباقي من المدنيين العزل؟

 

هل هذه النوعية من الحروب الدموية يسعى إليها المسلمون؟ بكل تأكيد لا وألف لا. إن مهمتنا كمسلمين هي إنقاذ البشرية مما هي فيه، لا إهلاكها، والحرب هي موقف اضطراري للدفاع عن النفس أو المظلومين. إن مهمتنا أن نسوق البشر إلى الجنة وليس إلى الجحيم.

 

وخلاصة هذه النقطة الاستراتيجية، هي أننا لا نستهدف حربا وجودية مع أحد، ولسنا طلاب دمار وهلاك وسفك دماء، لكننا نبني الحصون، ونقوّي القلاع، ونمتلك مصادر السيادة، ونحقق توازن القوى والرعب، ونضرب على يد الظالم وفقط، ولا أحدا سواه. ونحن نفعل هذا، لا تغيب عنا رسالتنا وغايتنا في هداية الناس وإنقاذهم مما هم فيه من شقاء وتعاسة، وإن اختفت مظاهرها خلف الملهيات التي يشغلون بها الشعوب.

 

⚡️ سادسا: مؤسسة خطوط المواجهة:

 

اتسمت الحركات والفصائل التي تواجه الهجمة على الأمة خلال العقود الماضية بسِمَتين أساسيتين:

 

📍 الأولى؛ أن العمل الحركي (غير المسلح) أخذ الطابع السري في المواجهة، والاعتماد على أشكال التنظيم المختلفة، وفقا للظروف الأمنية الضاغطة على هذه الحركات ومناخ الحريات المتاح أمامها. ورغم أن هذه الحركات نجحت في البقاء والاستمرار تحت وطأة الضغوط التي تتعرض لها، خصوصا في الفترة التي سبقت الألفية الجديدة، للأسباب التي سنوضحها لاحقا، إلا أنها فشلت في عملية التطوير الداخلي لهياكلها وقيمها الإدارية والتنظيمية نتيجة التوسع في ثقافة الكتمان والسرية، وعدم القدرة على تجديد بنية القيادة بها، نتيجة غياب أدوات تداول السلطة مع الظروف الأمنية.

 

📍 ثانيا: لكن مع بدايات الألفية وربما قبلها قليلا؛ تطورت أساليب وطرق الدولة الحديثة في الرقابة والتتبع والتنصت بمستويات غير مسبوقة، وبفجوات واسعة في الإدراك والاستيعاب بينها وبين هذه الحركات، مما جعل ذلك مسألة السرية تكاد تكون نكتة أو طرفة، حتى أصبح كثير من أعضاء هذه التنظيمات يتندر بأن الأجهزة الأمنية تعرف عنهم أكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم. وتلك كانت حقيقة في واقع الأمر، ولا تزال.

 

وعليه، فقد أصبح الواقع كالتالي، تنظيمات تظن نفسها سرية وبعيدة عن عين الرقيب، تتكلس داخليّا، ويقف نموها وتطورها في مستويات التفكير والقيادة والإدارة بفعل السرية، وفي الوقت نفسه الأجهزة الأمنية تعرف كل ما يدور داخلها بشكل كامل، يفوق حتى معرفة أعضائها أنفسهم.

 

وبناء على التحليل السابق، يجب على مجموعات التنظيم والحركة أن تلجأ إلى المؤسسية في أعمالها في ظل الدولة الحاضنة، بحيث يتاح لها التطور والعمل والحركة، فضلا عن توفر أدوات حقيقية للرقابة والشفافية والمحاسبة، ومن ثم تتضاعف إنتاجية هذه الحركات عبر منصاتها التي تتطور في ظروف طبيعية، وفي الوقت نفسه تتوفر بيئات صحية مع الدولة الحاضنة، حتى لو اضطررنا للنزول بسلم الأهداف قليلا بما يتماشى مع ظروف الدولة الحاضنة؛ لأن الوقت الحالي يحتاج إلى بناء الجيل وإعداد البنية التحتية اللازمة لإدارة الصراع، ولا يحتاج إلى مواجهات جديدة لا نملك مقوماتها، كما أسلفنا في الجزأين السابقين.

 

بطبيعة الحال، حديثي هنا مقتصر على الحركات التي تمارس العمل العام أو السياسي، وتستهدف الجماهير بخطابها وحركتها، وليس التنظيمات المسلحة التي يعدّ جزءا رئيسيا من عملها، يعتمد على الكتمان والسرية بدرجات عالية.

 

لكن الاتجاه إلى المؤسسية في العمل الحركي (غير العنيف) ليس بهذه السهولة المتصورة، وهناك عقبات وتحديات عدة تواجهه، وهو ما سينقلنا إلى مستوى آخر من التفكير، نتناوله في المقال القادم بإذن الله.

 

[ad id=’435030′]