بحوث ودراسات

د. نارت قاخون يكتب: تفلسفوا.. يرحمكم الله

By د. نارت قاخون

July 01, 2022

  أصدر السلطان محمد بن عبد الله العلويّ، المعروف بـ«محمد الثالث»، من ملوك الأسرة العلويّة في المغرب، العام 1192هـ/ 1778م «مرسوماً سلطانيّاً» عُرف بـ«مرسوم إصلاح التعليم في جامع القرويين»،

ممّا جاء فيه:

ومن أراد قراءة «علم الأصول» فإنه أمر قد فرغ منه، و«دواوين الفقه» قد دوِنت، ولم يبقَ اجتهاد.

ومن أراد أن يخوض في «علم الكلام» و«المنطق» و«علوم الفلسفة» وكتب «غلاة الصوفية» وكتب القصص، فليتعاطَ ذلك في داره مع أصحابه.

إضلال الطلبة المذكورين

هؤلاء الطلبة الذين يتعاطون العلوم التي «نهينا عن قراءتها» ما مرادهم بتعاطيها إلا الظهور والرياء والسمعة،

ويضلون طلبةَ البادية، فإنّهم يأتون من بلدهم بنيّة خالصة في التفقّه في الدين وحديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم،

فحين يسمعونهم يدرّسون هذه العلوم التي نهينا عنها يظنّون أنّهم يحصلون على فائدة بالعلوم المذكورة،

ويتركون مجالس التفقّه في الدين واستماع حديث خير المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وإصلاح ألسنتهم بالعربية،

فيكون سبباً في إضلال الطلبة المذكورين، وهؤلاء الطلبة يظنّون أنّهم ماهرون في العلوم المذكورة، فمن جاء يستفتيهم في مسألة فقهيّة لا يحسنون الجواب فيها.

النهى عن الخوض في علم الكلام والمنطق وعلوم الفلسفة

هذا المرسوم السلطاني الذي ينهى عن الخوض في «علم الكلام» و«المنطق» و«علوم الفلسفة» اعتماداً على التخويف من «أثرها» وما تجلبه من «تضليل» و«فتنة» للخائضين فيها،

يُمكن أن يكون مثالاً لانحراف «الإصلاح» عن صواب التوصيف والعلاج، وتفريغ «الإصلاحات الفكريّة والتعليميّة» من مضامينها، بل الانقلاب عليها.

فهذه العلوم، من كلام ومنطق وفلسفة، لن تشكّل «خطراً» إلا على «عقائد جامدة» و«تقاليد بالية عتيقة»، و«إيمانٍ سطحيّ اتباعيّ لا برهانيّ»،

أمّا «المعارف» التي تتأسّس على «الحجة والبرهان» فلن يزيدها علم الكلام والفلسفة والمنطق إلا قوّة

حين تخوض مرّات تلو مرّات «اختبارات علميّة وعقليّة» تجدّد لها قوتها وتُذهب عنها الكدر والضعف المتراكم،

وتعيد لها قوّتها الكامنة وإجاباتها لأسئلة الزمان المتجدّدة.

«الحيّز العام» و«الحيّز الخاص»

وإنصافاً لهذا «المرسوم» مقارنة بغيره من «الفتاوى» التي كفّرت الفلسفة والمشتغلين بها، وجعلتها من «علوم الشيطان»

التي ينبغي محاربة أهلها لا بالحجّة والبرهان بل بالسيف والسلطان كما في فتوى «ابن الصلاح» المعروفة للدارسين،

فإنّ «المرسوم السلطانيّ» منع حضور الفلسفة في «الحيّز العام» من دون أن يتعدّى إلى «الحيّز الخاص»، فأجاز لمن يريد خوضها فعلَ ذلك في بيته مع أصحابه!

أمّا وصف المرسوم السلطانيّ «علمَ الأصول» بأنّه من العلوم التي فرغ منها، فلا جديد ولا تجديد، ولا اجتهاد،

فهذا «قول» يعلم دارس الأصول بعده عن الحقيقة العلميّة والواقعيّة.

تجديدُ «الأصُول» أوْلى

فتجديد «الأصول» أولى ما ينبغي أن ينشغل به أهل العلم؛

فـ«الأصول» لم تكن أصولاً إلا لِما كانت تحقّقه من شروط الحياة الحضاريّة واستطرادها في زمنها، وللأزمنة والأمكنة أحكام وتحديّات تتطوّر وتتغيّر بل تتقلّب.

ولعلّ تسمية هذه المعارف بـ«الأصول» كانت سبباً من أسباب تعطيل تجديدها واستئناف النّظر فيها تعديلاً وإنشاءً؛

فلكلمة «الأصول» وقع نفسي وسيرة لغويّة توحي بالثبات والديمومة ومقاومة التغيير،

فتصبح هذه «الأصول» جزءاً تكوينيّاً من «هويّة الأمّة الفقهيّة والفكريّة»، وتصير محاولة التجديد والتغيير فيها مسّاً بثوابت الأمّة وهويّتها الحضاريّة!

مفارقات منهجيّة وعلميّة وتاريخيّة

وفي هذا المنظور المنبثق من استراتيجيّة «الاسم والتسمية» مفارقات منهجيّة وعلميّة وتاريخيّة؛ فأصول «الفهم والفقه»

ليست مطلقة منفصلة عن السياقات الثقافيّة والحضاريّة وآفاق الفهم والمعرفة في كلّ عصر،

و«النصوص الدينيّة» التي هي موضع «أصول الفقه» نظراً وتطبيقاً،

لا تخرج عن حقيقة كونها نصوصاً لغويّة لا تستكمل دائرةَ تلقّيها وفهمها إلا بفعل المتلقّي وسياقه.

وبتوظيف استعارة «دو سارتو» في العلاقة بين «المكان والاستراتيجيّ والنّص» من جهة،

و«الزمان والتكتيكيّ والقراءة» من جهة أخرى،

يمكن القول إنّ ما يفرضه «المكان/ النّص» على «الزمان/ القراءة» هو «البعد الاستراتيجيّ» الذي له قواعده القسريّة وأنظمته القهريّ،

وما يفعله «الزمان/ القراءة» في «المكان/ النّص» هو «البعد التكتيكيّ» الذي يمثّل الفعل الخلاّق والابتكارات الفرديّة والمغامرة الخاصة.

قراءة النص فعلا زمانيا تكتيكيا

بذلك تكون «قراءة النّص» فعلاً زمانياً تكتيكيّاً يعمل في المعطى الاستراتيجيّ الذي هو «النّص» الذي لن تكون له حياة في زمن القراءة إلا بهذا الفعل التكتيكيّ الخلاّق المبتكر.

لذلك، يصبح القول بأنّ «أصول الفقه» علم فرغ منه وانتهى أمره إيذاناً بموت «القارئ»، وموت «الزمان» وتجمّده.

ومتى مات «القارئ» وتجمّد «الزمان»، مات «النّص» نفسه،

وأمست تلك «الأصول» أسباب إماتة حضاريّة فكريّة تجعل الجماعة المسلمة والذات المسلمة مرهونة بالقسر والقهر والإكراه للمكان والزمان المفقودين.

وحتى لا تكون قراءة هذا «المرسوم» انتزاعيّة تخرجه عن سياقه الزمانيّ والحضاريّ، فإنّ المطّلع على التراث في سيرورته ومراحله المختلفة،

لا يستطيع إنكار أنّ «علم الكلام» و«المنطق» و«الفلسفة» و«التصوّف» و«أصول الفقه» علوم انحدرت في تلك الأزمنة عقب سلسلة من الانتكاسات والإخفاقات، حتى صارت «سفسطة» و«غثاء».

وهذا الانحدار في (هذه العلوم ليس منفصلاً عن التراجع والانحدار «الثقافيّ» و«العقليّ» و«الحضاريّ» و«السبات الفكريّ)

الذي عاشت في ظلاله التجربة المسلمة خلال قرونها المتأخّرة بعد سلسلة من الأسباب الماديّة والثقافيّة عطّلت «الزخم الحضاريّ» الذي انطلقت به التجربة المسلمة في قرونها الأولى.

كما لا يمكن فصل هذا التراجع عن جدليّة الصعود والهبوط الحضاريّ والفكريّ لأيّ جماعة ومجتمع،

في سلسلة تبدأ باندفاعة النشأة ثمّ آفاق التكوين ثمّ ثوابت التأصيل ثمّ أعراف التقاليد ثمّ آفات التقليد التي رزحت تحتها المجتمعات المسلمة في أزمنتها المتأخّرة.

إصلاح الجسد المريض لا يكون بذبحه

الإقرار بهذا «الانحدار» في القضايا الكلاميّة والفلسفيّة والمعرفيّة والحضاريّة، لا يسوّغ البتة منع «الخوض فيها» وتدريس كتبها،

فإصلاح الجسد المريض لا يكون بذبحه وقتله.

نعم، قد يتطلّب الأمر «إصلاحاً جذريّاً» يصل أحياناً إلى «البتر» إذا ما كان «الفساد عظيماً» غير قابلٍ للإصلاح.

لكنّ علوم العقل، من علم الكلام والفلسفة والمنطق، لم تكن في أصلها إلا علوم «صحة العقول وقوّتها»،

فالواجب لمن أراد الإصلاح حقّاً أن يصلح هذه العلوم والمعارف لا أن «يقتلها» و«ينهى» عن تدريسها والخوض فيها؛

فالفلسفة والمنطق اللذان أتحدّث عنهما هما تلك العلوم التي نتعلّم منها إدارة الحوار العقليّ حول أيّ قضيّة من القضايا،

مستثمرين الأدوات النقديّة والتحليليّة المتوفّرة في آفاق لحظتنا الحضاريّة لتقديم نماذج فكريّة وعلميّة تتمتّع بالكفاية المنهجيّة والعملانيّة لحلّ مشاكلنا واجتراح المقترحات الإبداعيّة التي تحفظ الهويّة الجماعيّة والذات الفرديّة في معادلة الوجود والبقاء والنموّ الإنسانيّ والحضاريّ،

وليست تلك «السفسطة اللغويّة» و«ألعاب الكلام» التي لا تتجاوز «السراب» الذي يحسبه الظمآن ماء، ثمّ إذا جاءه لم يجد شيئاً.

إنّ الواقع الذي نعيشه بتجليّاته وتحدّياته الماديّة والمعرفيّة، يفرض على «العقل المسلم» أن يستأنف فعل «التعقّل والتفلسف»

بوصفهما فعلين فعّالين منتجين يستثمران آفاق المعرفة الحديثة،

ويحقّقان للجماعة المسلمة والذات المسلمة شروط الانتماء الحضاريّ للحاضر والمستقبل،

ويستعيدان «العقل المسلم» من الأماكن والأزمنة المفقودة التي «هاجر» إليها،

وسكن فيها هروباً يحمل في طيّاته الإقرار بالعجز عن مواجهة اللحظة الحضاريّة الراهنة.

لذلك أقول: تفلسفوا يرحمكم الله.

♦♦♦

عنوان المقال مقتبس من عنوان فصل من كتاب «العلاج بالفلسفة» للدكتور مصطفى النّشار.