د. وصفي أبو زيد

بحوث ودراسات

د. وصفي أبو زيد يكتب: الأعمال الباطنة عند تلاوة القرآن الكريم:

By د. وصفي أبو زيد

July 03, 2022

ذكر الإمام الغزالي في الباب الثالث في الأعمال الباطنة عند التلاوة عشرة آداب، وهي:

فهم أصل الكلام، ثم التعظيم، ثم حضور القلب، ثم التدبر ثم التفهم، ثم التخلي عن موانع الفهم، تم التخصيص، ثم التأثر، ثم الترقي، ثم التبري،

وذكر لكل أدب تفصيلًا، نذكر منها اختصارًا للموضوع، فنورد في هذا كلام الإمام الغزالي تحقيقًا لمناط تلاوة القرآن الكريم،

فنقول: إن الإمام الغزالي قال عن الآداب العشرة ما يلي:

الأول:

فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش الجلالة إلى درجة إفهام خلقه.

الثاني: التعظيم للمتكلم،

فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظم المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر.

الثالث:

حضور القلب وترك حديث النفس، وهو أن يكون متجردًا له عند قراءته، منصرف الهمة إليه من غيره.

الرابع: التدبر،

وهو وراء حضور القلب؛ فإنه قد لا يتفكر في غير القرآن، ولكنه يقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبره،

والمقصود من القراءة التدبر، وإذا لم يتمكَّن من التدبر إلا بترديد فليردد،

ويروى عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا ليلة،

فقام بآية يرددها وهي: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]،

وعن بعض السلف أنه بقي في سورة هود ستة أشهر يكررها ولا يفرغ من التدبر فيها.

الخامس: التفهُّم،

وهو أن يستوضح من كلِّ آية ما يليق بها؛ إذ القرآن يشتمل على ذكْر صفات الله عز وجل وذكر أفعاله

وذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام وذكر أحوال المكذبين لهم، وأنهم كيف أهلكوا،

وذكْر أوامره وزواجره وذكر الجنة والنار، أما صفات الله عز وجل فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها،

فتحتها معانٍ مدفونة لا تنكشف إلا للموفقين، وأما أفعاله تعالى فكذكره خلق السماوات والأرض وغيرها،

فليفهم التالي منها صفات الله عز وجل؛ إذ الفعل يدل على الفاعل، فتدل عظمته على عظمته، وأما أحوال الأنبياء عليهم السلام،

فإذا سمع منها كيف كذبوا وضربوا وقتل بعضهم، فليفهم من صفة الاستغناء لله عز وجل عن الرسل والمرسل إليهم،

وأنه لو أهلك جميعهم لم يؤثر في ملكه شيئًا، وأما أحوال المكذبين كعاد وثمود وما جرى عليهم،

فليكن فهمه منه استشعار الخوف من سطوته ونقمته، وليكن حظه منه الاعتبار في نفسه،

وكذلك إذا سمع وصف الجنة والنار وسائر ما في القرآن، فلا يمكن استقصاء ما يفهم منه؛ لأن ذلك لا نهاية له وإنما لكلِّ عبدٍ بقدر رزقه.

السادس:

التخلي عن موانع الفهم، فإن أكثر الناس مُنعوا من فهم معاني القرآن لأسباب وحُجُب أسدلها الشيطان على قلوبهم؛ فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن،

وحجب الفهم أربعة:

أولها:

أن يكون الهمُّ منصرفًا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها…، فهذا يكون تأمله مقصورًا على مخارج الحروف فأنى تنكشف له المعاني؟!

ثانيها:

أن يكون مقلدًا لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة،

وهذا التقليد قد يكون باطلًا فيكون مانعًا، كمن يعتقد في الاستواء على العرش التمكُّن والاستقرار،

فإن خطر له مثلًا في القدوس أنه المقدس عن كلِّ ما يجوز على خلقه لم يمكنه تقليده من أن يستقر ذلك في نفسه…،

وقد يكون حقًّا ويكون أيضًا مانعًا من الفهم والكشف؛ لأن الحقَّ الذي كلف الخلق اعتقاده له مراتب ودرجات،

وله مبدأ ظاهر وغور باطن، وجمود الطبع على الظاهر يمنع من الوصول إلى الغور الباطن.

ثالثها:

أن يكون مصرًّا على ذنب أو متصفًا بكبر أو مبتلًى في الجملة بهوى في الدنيا مطاع، فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه،

وهو كالخبث على المرآة، فيمنع جلية الحق من أن يتجلى فيه، وهو أعظم حجاب للقلب وبه حجب الأكثرون.

رابعها

أن يكون قد قرأ تفسيرًا ظاهرًا، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما،

وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي، وأن من فسَّر القرآن برأيه فقد تبوَّأ مقعده من النار، فهذا أيضًا من الحجب العظيمة،

وأن ذلك لا يناقض قول علي رضي الله تعالى عنه: “إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن”،

وأنه لما كان المعنى هو الظاهر المنقول ما اختلف الناس فيه.

السابع: التخصيص،

وهو أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن، فإن سمع أمرًا أو نهيًا قدر أنه المنهي والمأمور،

وإن سمع وعدًا أو وعيدًا فكمثل ذلك، وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السمر غير مقصود، وإنما المقصود ليُعتبر به،

وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله، بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه.

الثامن: التأثر،

وهو أن يتأثر قلبُه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كلِّ فهم حال ووَجْد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره،

فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة، فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت،

وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح، وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعًا لجلاله واستشعارًا لعظمته،

وعندَ ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل كذكرهم لله عز وجل ولدًا وصاحبة يغضُّ صوته ويكسر في باطنه حياء قبح مقالتهم، وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقًا إليها وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفًا منها.

التاسع: الترقِّي،

وأعني به: أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه،

فدرجات القراءة ثلاثٌ:

أدناها:

أن يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفًا بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملق والتضرع والابتهال.

والثانية:

أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه ويخاطبه بألطافه، يناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم.

والثالثة:

أن يرى في الكلام المتكلم، وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه،

بل يكون مقصورَ الهَمِّ على المتكلم، موقوف الفكر عليه،

كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره، وهذه درجة المقربين وما قبله درجة أصحاب اليمين،

وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين.

العاشر: التبري،

وأعنى به أن يتبرأ من حوله وقوته والالتفات إلى نفسه بعين الرضا والتزكية،

فإذا تلا بآيات الوعد والمدح للصالحين فلا يشهد نفسه عند ذلك، بل يشهد الموقنين والصديقين فيها،

ويتشوف إلى أن يلحقه الله عز وجل بهم، وإذا تلا آيات المقت وذم العصاة والمقصرين شهد على نفسه هناك،

وقدر أنه المخاطب خوفًا وإشفاقًا.

 

من مقال بعنوان:

التحقيق المقاصدي للأعمال: نموذج تطبيقي على مقاصد تلاوة القرآن.. لأشرف الدين خان