وردت أسئلة لـ«الهيئة العليا لرابطة علماء المسلمين» حول حكم الالتحاق بجيوش دول غير مسلمة، والقتال معها اختيارًا، وحكم الإكراه على تلك المشاركة لمن يحمل جنسية تلك الدول، وذلك في خصوص ما يتعلق بهذه الحرب الأوكرانية الروسية.
والجواب:
الحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، وبعد، فالإجابة على هذا السؤال تنتظم النقاط الآتية:
أولاً: ليس للمسلم الذي يحمل جنسية دولة كافرة أن يلتحق مختارًا بجيش دولته الكافرة رضًى واختيارًا، فإن أُكره بما لا قدرة له على دفعه فليتجنب المشاركة في الأعمال القتالية بكل سبيل، وليكن فيما دون ذلك، وليتق الله ما استطاع، والأمور بمقاصدها؛ يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»(1).
وتتأكد الحرمة والحظر إذا كانت حرب الكفار ضد دولة مسلمة.
ثانيًا: من استطاع من المسلمين أن ينحاز بأهله وماله إلى أرض لا قتال فيها فهو الأولى، لاسيَّما وقد فتح المتحاربون ممراتٍ آمنةً للمدنيين.
ثالثًا: ليس للمسلم بالنظر لهذه الحرب الدائرة بين دولتين كافرتين أن يدخل راضيًا مختارًا في قتال وهجوم مع أحدهما ضد الأخرى، ومع اختلاف الدين، وانعدام الراية، وولاية الكافرين، وعدم الاضطرار بأسر الكفار أو إكراههم للمسلم- فالحرمة ظاهرة.
أما اختلاف الدين: فيقال فيه: إن المسلم الذي سيقاتل في أوكرانيا سيكون تحت إمرة كافر وسلطانه، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141]، وكيف لمؤمن أن يسلط الكفار على نفسه رضًى واختيارًا، وقد وصف الله المؤمنين بالعزة على الكافرين، فقال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]!
وقد أجمع علماء المسلمين على أنه لا ولاية لكافر على مسلم بحال من الأحوال، حتى إن الأب الكافر لا ولاية له على ابنته إذا أسلمت، يقول ابن المنذر رحمه الله: «أجمع عامة من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر لا يكون ولياً لابنته المسلمة، لقطع الله تبارك وتعالى الولاية بين المسلمين والكافرين» (2)، فكيف يكون له ولاية على دماء المسلمين وأموالهم؟
بل أجمع العلماء على أن الوالي المسلم إذا عاد كافرًا بعد إيمانه سقطت ولايته، وانعزل عن منصبه شرعًا(3)، وذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن منازعة ولاة الأمور، «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»(4).
وأما انعدام الراية: فلما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ، وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي» (5)، وفي الصحيح أيضًا من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَدْعُو عَصَبِيَّةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ»(6).
وما من شك أن الطرفين المتقاتلين إنما يقاتلان على وطنية أو قومية أو أطماع دنيَّة، وليس أحدهما ممن يرقب في المؤمنين إلًّا ولا ذمة، فإن تنزل هذا الوعيد على من أراق دمه في قتال عصبية مع المسلمين، فتنزله على من قاتل تحت راية الكفار أولى وأحرى.
وأما ولاية الكافرين: فلأن القتال أعظم صور الموالاة والنصرة، وقد قطع الله الموالاة بين أهل الإيمان وأهل الكفران، فقال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22].
وأما قيد عدم الاضطرار: فقد نقل عن بعض أهل العلم أنهم أباحوا للأسير المسلم ونحوه من المضطرين أن يقاتلوا الكفار مع عدوهم الذي أسرهم، وأنكر كثير من أهل العلم جواز ذلك أيضًا، أما الدخول في هذا القتال حال السعة والاختيار فلا وجه له في دين الله بحال.
رابعًا: إذا كان المسلم في الأرض التي دارت فيها رحى المعارك، وصال عليه بعض المعتدين، فإن له أن يقاتل دفعًا عن نفسه ودينه وعرضه وماله، فيدفع الصائل، ويرد المعتدي بما استطاع، وهو في هذا مأجور؛ لقول النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» (7).
ويجوز للمسلم أن يقاتل غير المسلمين المعتدين مع غير مسلمين ليدفع الصائل المعتدي عن دينه ونفسه وأهله وماله، وذلك في حال الاضطرار، حيث لم تكن له قدرة على الدفع إلا بالاجتماع مع غير المسلم على حربه، ولا يعرض نفسه وأهله للقتل لاعتبارٍ دون ذلك، لاسيما الاعتبارات القومية أو الجاهلية.
فالمسلم لا يسفك دمه إلا في سبيل الله، ولا يقدم روحه إلا لربه ومولاه، وقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوم مسلمين أسرهم بعض الكفار، وأمروهم أن يقاتلوا معهم كفارًا آخرين، فقال: «لا يحل لهم أن يسفكوا دماءهم على مثل ذلك، وإنما يقاتل الناس ليدخلوا في الإسلام من الشرك، فأما أن يقاتلوا الكفار ليدخلوهم من الكفر إلى الكفر، ويسفكوا دماءهم في ذلك، فهذا مما لا ينبغي لمسلم أن يسفك دمه عليه»(8).
فإن كان هذا حال الأسير المغلوب، فكيف بالحر المختار، يحارب في غير ميدان، ويعرض نفسه ودينه لأعظم الخسران!
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم.
صادر عن
الهيئة العليا لرابطة علماء المسلمين
الخميس 30 / رجب / 1443هـ
الموافق 3/3/2022م
——————————————
(1) أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).
(2) الإشراف على مذاهب العلماء، لابن المنذر (5/ 23).
(3) حكى هذا الإجماع القاضي عياض وغيره، كما في إكمال المعلم (6/ 246).
(4) أخرجه البخاري (7056)، ومسلم (1709).
(5) أخرجه مسلم (1848).
(6) أخرجه مسلم (1850).
(7) أخرجه البخاري (2480)، ومسلم (141).
(8) المدونة (ص 179).