الأخبار

ربيع عبد الرؤوف الزواوي يكتب: من ذكريات هذا الشهر الفضيل (4)

By ربيع عبد الرؤوف الزواوي

May 12, 2020

كل سورة من سُوَر القرآن الكريم حديقة غَنّاء…

 

لثمارها طعمها الخاص، وأوراقها النضرة، وظلالها الوارفة، وأغصانها الحَمول…

 

كل سورة من سور القرآن الكريم لها أسلوبها المتفرد، وبلاغتها الخاصة، وعطاياها العظيمة، وإرشاداتها المباركة، ودلائلها العالية، ورونقها البديع…

 

كل سورة من سور القرآن الكريم لها جوها الذي نزلت فيه، وأحداثها التي واكبتها، وملابساتها التي اكتنفتها، ورسائلها التي استهدفتها…

 

فتعامل مع القرآن على هذا الأساس؛ على أنه سور… على أنه 114 سورة، أي 114 حديقة، لكل حديقة ثمرها الخاص ومذاقها المتفرد… وليس على أنه 30 جزءا و 60 حزبا و 240 ربعا… إلخ.

 

واحرص على أن تختم السورة إذا بدأت فيها، وأن تكون قراءتك على هذا الأساس… لا على أساس الأجزاء والأحزاب…

 

فالقرآن المجيد في السماء (في لوح محفوظ) سُورٌ وليس أجزاءً وأحزابا… فتأمل!.

 

ستدرك ثمرة ما أقول إذا أعطيته قدرا بسيطا من التأمل، وجزءً قليلا من التفكير، وأعرته بعض انتباهك…

 

وهذه أمثلة تبيّن ما قصدت، على سبيل المثال لا الحصر.. وإلا فالأمر يحتاج تفصيلا ليس هنا مقامه، ونسأل الله جل وعلا أن ييسّر للكتابة في ذلك.. سورة سورة…

 

فنقول هنا على سبيل المثال:

 

– تفتح لك سورة (الضحى) صفحة واضحة لبدايات بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتضعك في بؤرة الحدث، وتنقل لك رائحة الوحي وعبق اتصال الأرض بالسماء بعد فترة من الرسل…

 

وترسم لك ملامح هذا النبي الكريم ذي النفس التواقة إلى إشراقات السماء وتجليات النور العلوى على ظلمات مكة في تلك الأيام.

 

وتكشف لك براكين الشوق عنده صلى الله عليه وسلم لوحي السماء، وحجم خوفه الكبير من انقطاعه وانتهائه كأن شيئا لم يكن…

 

وتلمس منها حجم التحنان الإلهي، والعطف الرباني، والتكرم على عبده ومصطفاه ليكون خاتمة رسله وأنبيائه…

 

وغير ذلك مما ترسمه السورة وتشي لك به عندما تعطيها شيئا من التفكير وقدرا من الانتباه…

 

– وسورة (الرعد) التي تشعر في آياتها بقصف شديد لمعالم الكفر ومجاهل الغي وتزلزل كيان الكافرين في كل زمان ومكان..

 

– وتكشف لك سورة (التوبة) عن خبايا نفوس المنافقين وكيف فضحتهم السورة وأظهرت بواطنهم… فيا لها من دروس وعبر تنادي عليك؛ أن اهرب من النفاق وخف على نفسك منه واحذر من نقض إيمانك والقدح في إسلامك… وتظل (ومنهم) في آياتها الكريمة تصعقهم وفي نفس الوقت تنبهنا؛ إن احذروا على أنفسكم.

 

– وتضعنا سورة (آل عمران) وسورة (الأنفال) في معمعات الحروب، وملابسات الغزو… من همهمات الخيول، وأصوات السنابك، والكر والفر… حتى – والله – ليخيل إلي أحيانا سماع صوتها أو شم غبارها…

 

– وسورة (الفلق) التي تقذف أولئك السحرة والكهان ومن أظلمت قلوبهم ممن يحسدون الناس على فضل الله عليهم… يأتي حرف الـ (ق) فيهزك هزا وأنت تقرؤها وينبهك ويزجرك ويربت على ظهرك في نفس الوقت؛ ألا تفعل ذلك ولا تخف ممن يفعلونه…

 

– وفي سورة (الناس)… يضعك حرف الـ (س) المكرر في آياتها الكريمة في جو وسوسة أولئك البشر، ويكشف لك سلاحهم الحقير في الإيذاء بالـ (وسوسة)… أو الـ (وشوشة)… وسوستهم هي أول قذائفهم عليك…

 

وتشترك السورتان الكريمتان (الفلق والناس) معا في وضع حصن قوي، ودرع واق لك أمام كل تلك الشرور… مفتاح ذلك الحصن هو اللجوء إلى حصن الله والدخول في حمايته وتحت رعايته… والدخول لحصنه يكون بالتعوذ؛ التعوذ بالله…

 

فالسورتان الكريمتان تصدعان وتناديان عليك… وتسلمانك ذلك المفتاح في يسر وسهولة… فقط قل (أعوذ)… فقط: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس…

 

وإلى تلك الجنان الرحاب

وهاتيك الساحات الخصاب…

 

وفي هذه الحدائق الغناء..

يتجدد دائما بنا اللقاء…

إن شاء الله.

 

الأستاذ محمود مجاور وفضيلة الشيخ فتحي العطار

 

في إحدى ليالي شهر رمضان عام ١٤٠٥ الموافق عام ١٩٨٥، وكنا وقتها أثناء امتحانات الثانوية العامة؛ قرأ فضيلة الشيخ فتحي العطار رحمه الله في الفجر بإذاعة القرآن الكريم بما تيسر من سورة المائدة..

 

وفي الآية ١٠٠ من السورة الكريمة (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث… ) الآية.. وقف الشيخ فتحي رحمه الله على لفظ (ولو أعجبك).. وكان لهذا الوقف قصة..

 

فقد كنت طوال أيام امتحانات الثانوية العامة في ضيافة والدنا المربي الفاضل والفقيه اللغوي الأستاذ محمود مجاور رحمه الله؛ وكيل المدرسة الثانوية بحوش عيسى.. ببيته في صحبة نجله زميلي الحبيب الأستاذ عبد العظيم محمود مجاور..

 

أثنيت يومها أمام والدنا الأستاذ محمود مجاور رحمه الله – بعد خروجنا من المسجد بعد صلاة الفجر – على صوت الشيخ فتحي العطار رحمه الله وطريقة قراءته.. وتكلمت معه عن حبي له رحمه الله..

 

فقال لي والدنا رحمه الله: أخذت بالك إنه وقف على (ولو أعجبك) والحقيقة أني لم أكن قد انتبهت لها.. وشرح لي رحمه الله المعنى الجديد للآية إذا نحن وقفنا على (ولو أعجبك)..

 

فإن لها معنى جديدا؛ يعني ولو أعجبك الطيب.. أو: ولو أعجبك الخبيث مطلقا.. وليس: ولو أعجبك كثرة الخبيث فقط..

 

وبعد أيام قليلة قال لي والدنا: أنا قابلت الشيخ فتحي وسألته؛ انت كنت قاصد تقف على (ولو أعجبك) ولا وقفت عليها عشان النَّفَس؟.. وضحكنا..

 

وبعدها بأعوام.. التقيت بفضيلة الشيخ فتحي العطار رحمه الله وذكّرته بهذه الحكاية.. فضحك وقال: انتم كنتم واخدين بالكم؟.. والله كويس.. أو كلاما قريبا من ذلك.. وضحكنا..

 

موقف عابر وملاحظة عابرة من أستاذنا رحمه الله؛ فتحت – آنذاك – للفقير إلى ربه نافذة من التفكّر والتوقّف عند جمل الكتاب العزيز.. وتأمل وجوه الوقف المختلفة؛ المباح منها والواجب والمحرم، والفاسد والصواب.. إلخ.

 

رحم الله والدنا الأستاذ محمود مجاور ووالدنا فضيلة الشيخ فتحي العطار وجزاهما عنا خير الجزاء..

 

من المواقف الطريفة

 

من المواقف الطريفة التي مررتُ بها في حياتي في رحاب القرآن الكريم وتتعلق بشهر رمضان؛ أن زميلا جامعيا في عام 1987 جاءني في حجرتي بالمدينة الجامعية ذات يوم، وطلب مني أن أقرأ عليه من أول سورة الأحقاف… ليتقن قراءتها… لأنه يريد حفظها…

 

سألته: هل تحفظ ما قبلها أو ما بعدها من سور؟

تفاحأت بالرد: لا.. لا أحفظ ما قبلها ولا ما بعدها من سور!…

 

قلت مستفهما ومتعجبا: إذن… ولم سورة الأحقاف بالذات؟

 

قال: مطلوب مني أن أحفظ الجزء 26 كاملا… من الأحقاف حتى الذاريات…

 

قلت: هل تحفظ شيئا من القرآن؟

قال: الفاتحة وشوية سور عالقد كدا !!!…

 

قلت: طيب… اقرأ علي سورة الفاتحة…

فقرأ… فصُدمت لقراءته؛ إنه لا يحسن قراءة الفاتحة !!!…

 

استرجعت وأسفت لحاله… ثم قلت له: أومال أيه حكاية سورة الأحقاف… والجزء 26 كاملا؟!..

 

قال: الموضوع له قصة يا أستاذنا… عندنا في قريتنا قررنا نختم القرآن كاملا في صلاة التراويح في رمضان القادم إن شاء الله.. وليس عندنا أحد يحفظ القرآن كاملا…

 

فاتفقنا أن نجتمع 30 شابا جامعيا… واقتسمنا بيننا القرآن الكريم كاملا؛ كل واحد سيصلي ليلة إماما، يقرأ الجزء الخاص به!!!…

 

ففرحت جدا بالفكرة… واستبشرت وتهلل وجهي بعد عبوس… وقبلت رأس هذا الزميل.. وكبر في نظري…

 

ثم عبست مرة أخرى… واسترجعت وأسفت ثانية؛ كيف… قرية بها 30 جامعيا لا يحفظ أحد فيها القرآن؟!!!…

 

وقد باءت محاولاتي معه بالفشل… لم يستطع حفظ شيئ… والأيام تمضي وهو لا يتقدم في الجزء الذي عليه حفظه…

 

فلما استقر في وجداني عدم قدرته على حفظ الجزء قبل دخول شهر رمضان، قلت له عندي لك فكرة: المهم هو أن تتقن قراءة سورة الفاتحة وسور الجزء الذي عليك قراءته… ويمكنك أن تقرأه من المصحف وأنت في صلاة التراويح…

 

وقد كان.