الأخبار

عباس المناصرة يكتب: تاريخ الآداب الإنسانية.. «بدايات ومؤثرات» (1)

By عباس المناصرة

March 12, 2020

 (1)   تاريخ آدم عليه السلام في الملأ الأعلى

ما هي قصة وجودنا وحكاية خلقنا؟!نعم من هنا كانت البداية (إني جاعل في الأرض خليفة)، لنتابع ذلك من خلال آيات الله الكريمة في كتابه العظيم التي فصلت لنا ذلك:

قال تعالى:(والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم فيها،  ويخرجكم إخراجا)، وقوله تعالى:(منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخركم تارة أخرى).

 

وهذا العلم إخبار عن مصدر طينه آدم عليه السلام، ثم أعلم الله الملائكة بخبر خلق آدم.

 

قال تعالى:(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم مالا تعلمون).

 

ثم خلق الله آدم وعلمه الأسماء كلها، ورفع مقامه وقدراته في العلم والتعلم المباشر من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة، فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء أن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهُم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).

 

وبعد أن أكرم الله آدم بالخلق القويم، وعلمه من العلم ما ينفعه ويجعله قادراً على التميز، أرادت حكمه الله سبحانه أن تكشف أمرا مكتوما في نفس إبليس، فجاء أمر الله للملائكة بتكريم آدم والسجود له، وهو سجود طاعة لأمر الله، يكشف غيظ إبليس وحسده لآدم حين رفض السجود،وأعماه حسده لآدم عن طاعة الله سبحانه وتعالى، والخضوع لأمره (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)، وجاء أمر الله سبحانه وتعالى إلى آدم بالسكن في الجنة، وحذره من عداوة الشيطان، وطلب منه الامتناع عن الأكل من شجرة محددة،فأزله الشيطان فأكل من الشجرة،ووقع فيما حذره الله منه، (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكُلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فأزلهما الشيطان عنها، فأخرجهما مما كانا فيه)، وقع آدم في الخطأ، وندم على ما حصل منه، وتاب إلى الله فتاب الله عليه، وجاء أمر الله بخروج آدم من الجنة، ونزوله إلى الأرض، وبذلك انتهى تاريخ آدم في الملأ الأعلى.

 

(2)    تاريخ آدم عليه السلام في الأرض

 

بداية التاريخ بـ(الإنسان النبي)

 

وهكذا انتهت تلك المرحلة،ليبدأ آدم وزوجه وذريته تاريخاً جديداً على الأرض يحقق فيه خلافته في إعمارها قال تعالى:

(وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو،ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين).

(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه،إنه هو التواب الرحيم)

(إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، وإن من أمة إلا خلا فيها نذير).

(قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

 

وعندما قضى الله أمره بهبوط آدم وزوجه عليهما السلام إلى الأرض، كان ذلك إيذانا ببدء التاريخ البشري على وجه هذه الأرض، ومع قدوم هذا الضيف الكريم التائب أبو البشرية (آدم وزوجته عليهما السلام)، حيث أُخرجا من الجنة وعالم الخلود والسرمدية، وأُهبطا إلى عالم الزمان والمكان في الأرض، حيث جعل الله منها موطنا مؤقتا لآدم وذريته قال تعالى: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)، وبذلك أصبح الجنس البشري أسيراً(للسنن الكونية) التي تحكم الأرض ومؤثرات الحياة عليها، بعد أن حُجبا عن (عالم الجَنّة)، وطنهم الأول، وهكذا التقت في حياة آدم عليه السلام وعقله تجربتان من عالمَيْن مختلفين، هما: تجربته في (عالم الغيب)، حيث التعليم والتكريم والاختبار والجنة والإغواء من الشيطان والخطأ والتوبة وقبولها وصدور الأمر بهبوطه إلى(عالم الشهادة)،ليكون هو وذريته خلفاء في الأرض.

 

نبحث عن بداية التاريخ على وجه الأرض لأهميته في تفسير الحياة، وكيف بَدأ الخلق، وهو أمر رباني للإنسان، بالبحث عن بداية التاريخ لقوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير).

 

(3) وبهذا تكون مصادر العلم عند آدم وذريته محصورة في علمين هامين هما:

1- (علم الوحي عن عالم الغيب .)

2- (علم العقل عن عالم الشهادة .)

 

1-     العلم الأول (علم الوحي)

 

وهو العلم المنقول من الله سبحانه وتعالى، بوساطة الأنبياء والرسل الكرام إلى الناس، وكان آدم عليه السلام هو النبي والرسول الأول لذريته، وكانت وظيفتهُ وظيفةُ الأنبياء من ذريته من بعده إلى يوم الدين، هي تبصير الناس وتعليمهم في القضايا التي يعجز العقل البشري في البت بها، لأنه لا يملك عنها علماً،كالمعرفة بحكمة وجودنا في الحياة، ومقصد وجودنا منها، وهي عبادة الله سبحانه وتعالى على علم منه ومن رسله، وتحديد العَلاقة بين الخالق والمخلوق بعيدا عن أهواء البشر،وبما يريده الله من العبادة ويرضاه منهم، ثم علاقة الخلق ببعضهم، وتعليم كيفيات العبادات والطاعات التي يريدها الله من الخلق، من خلال حقائق الوحي وأمره، ولهذا جاء الأنبياء ليعلموا الناس حقوق الله على العباد، وحق العباد على الله، والتشريع للحياة بما أحل الله لهم أو حرم عليهم، وضبط الحياة بموازين العدل والقسط والشريعة بما يرضي الله،ويحفظ نظامها الخاضع لأمره،وحماية الناس من الفوضى، وتضارب العقول والأهواء، وتفسير الحياة، والإجابة على الأسئلة الكبرى التي تقلق الجنس البشري، ومنها السؤال الكبير الأكبر الذي يعيشه ويردده الجنس البشري من كل جيل من الأجيال، لماذا جئنا إلى هذه الحياة؟ ومن أوجدنا فيها؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟

 

ونلاحظ أن وظيفة العقل البشري في هذا العلم هي في استيعاب وفهم وفقه الأمر الرباني ومقاصده، والاجتهاد لذلك بأقصى درجات الاستطاعة،ودون تحريف أو حذف أو زيادة في ذلك، كما وردت في مصادرها من (رسالة الوحي لأنبياء الله)، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بإرسال الرسل الهداة إلى جميع الأجيال البشرية في القضايا التي لا يملك العقل البشري عنها علماً، لأن العقل البشري لا يملك علما عن عالم الغيب،إلا ما يتلقاه من علم الوحي والأنبياء، ومن خلال المقدمات والنتائج التي يفهمها العقل من نصوص الوحي المنقولة، واستخراج الفقه بشروطها وضوابطها الفقهية، ومن المصطلحات التي تطلق على هذا العلم (علم الوحي)، ومنها ما اشتهر عند العلماء (علم المنقول أو علم النقل) أو (علم الكتاب المسطور)، ويمثله في الرسالة الخاتمة للبشرية (القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة).

 

2- العلم الثاني (علم العقل لعالم الشهادة)

 

وهو العلم الذي وكل الله سبحانه وتعالى فيه العقل البشرى مهمة اكتشاف سننه وموازينه في الواقع الأرضي والحياة، والبحث عن سبيل العيش وتيسيرها، لأعمار الأرض وتسهيل خلافة الإنسان فيها، وذلك من خلال اكتشاف السنن والقوانين التي تحكمها، حيث يقوم (العقل البشري) الذي زوده الله بالطاقات الهائلة التي تمكنه من التعرف على(عالم الشهادة) من خلال (الحواس الخمس) التي تجمع له المعلومات، و(الدماغ )الذي يحللها و يحاكمها ويفهمها ويتأكد من قوانينها وحقائقها، و(القلب) الذي يدرك قيمتها وأثرها وخطرها، ووجه المصلحة للإنسان فيها، حتى يتمكن العقل من تنزيل علوم الوحي وأوامره في المقام السليم من تعمير الحياة مرتبطاً في ذلك بٍنِيّة العبادة والطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ويدرك هذا العقل أن(الدنيا مزرعة الآخرة)، وعليه أن يحسن العمل في هذه المزرعة حتى يحصل على الثمار الطيبة منها في الآخرة، التي هي مقصد وجودنا في هذه الدنيا.

 

وعلى العقل أيضا أن يدرك أن من وظائفه أن يتعرف أيضا على عظمة الله من خلال عظمة إبداعه في خلقه ومخلوقاته المبثوثة في آفاق السماوات والأرض،ليتعلم فضل الله عليه، ويتعلم شكر الله على نِعمِه بعد إدراكها والإقرار بها.

 

والملاحِظ يدرك أن العقل البشري يتعلم من سنن الله وقوانينه التي غرسها في خلقه، ويحولها إلى نِعم ومكتشفات ومخترعات، تُيَسر حياته وحضارته وخلافته على الأرض، وذلك حين تَعلم صناعة (الطيران من الطيور)، (والسفينة من الأسماك)، (والرادار من الخفاش)، (والإذاعة من طبقات الجو)، (والكمبيوتر من الدماغ البشري)، (ومكبر الأصوات من الأذن)، (وآلة التصوير من العين)، (والطائرة العمودية من البعوضة)، إلى آخر هذه المخترعات التي لا حصر لها، وبذلك يدرك الحقيقة ويعرف أن مصدر العلم هو من عند الله سبحانه وتعالى،فالله يعلمنا من علمه إما بكلامه وعلمه المباشر من طريق (علم الوحي)، أو من علمه الذي أودعه في مخلوقاته في السماوات والأرض، وفي أرجاء الكون من طريق (علم العقل)، وتوظيفه في خدمة الإنسان، ويسمى هذا العلم المدرك عن طريق العقل في ما اشتهر من مصطلحات العلماء (بعلم العقل أو علم المعقول أو علم الكتاب المنظور)،لأنهم شبهوا الكون والمخلوقات بالكتاب المفتوح للتعلم أَمام حواس الإنسان وعقله، قال تعالى:(أولم يرى الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون، وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون، وجعلنا السماء سَقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون، وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون).

 

وقد أشاد أحد الشعراء في تفاعله مع هذا المشهد الكوني العظيم الذي رسمته الآيات الكريمة بقوله:

فذا الكون جامعة الجامعات ::: وذا الدهر أستاذها المعتبر

 

(4)    مصطلح الواقعية الإسلامية

 

الأرض هي الوطن (المنفى)والمؤقت للجنس البشري، وذلك بعد نزول آدم عليه السلام وزوجه إليها، وتكاثر ذريته فيها وانتشارها في الأرجاء، وهي مزرعة الآخرة، ومجال اختبار أفعاله، التي تؤهله للعودة إلى وطنه الأصلي(الجنة)، ومن هنا ندرك ونتفهم الواقعية التي تعلم الإنسان أن يعيش على الأرض التي يدركها بحواسه، وهو يعلم في ذات الوقت أن هذا الواقع الملموس له جذور ممتدة، ومغرقه في عالم الغيب، و أن إنكار(عالم الغيب) هو نوع من ممارسه الغباء المنهجي، والعمى الفكري، ووهم الذات الذي يغذيه العناد الأجوف، وأن الواقع المتحقق حقا وفعلا ووجودا هو (عالم الشهادة وعالم الغيب الذي يختبئ وراء)، لأن(الواقع الحسي)أشبه برأس جبل الجليد، والغيب المخفي أشبه ببقية جبل الجليد الضخم الذي يغمره ماء البحر،أو هو أشبه بالشجرة جذورها المخفية في باطن الأرض، تشبه (عالم الغيب)، وساقها وثمارها وأغصانها تشبه (عالم الشهادة)، ولهذا فالواقعية في المفهوم الإسلامي تقوم على وصف حاله التجاذب والترابط بين المرئي والمخفي في فهم مصطلح (الغيب والشهادة)، دون فصل أحدهما عن الآخر وتأصيل الاعتراف بالحقيقة الكاملة للوجود من (الشهادة والغيب).

 

وأن ندرك أن الشرط الموضوعي الأول: لهذه الواقعية يقوم على عدم القفز عن قطبي المعادلة، لأن(القطب الأول عالم الشهادة) هو الذي يشكل البوابة العظيمة التي ندخل منها إلى(القطب الثاني عالم الغيب)، وذلك بحكم الخضوع لحقائق الواقعية، ومنها إحساس الحواس، وارتباطها بعالم الشهادة أولا، واكتشافها وتعرفها على (عالم الغيب)يأتي بعد تعرفها على (عالم الشهادة) تاليا وثانيا، فالدنيا مزرعة الآخرة، ومن ضيع مزرعته ضيع آخرته،وآيات القرآن الكريم تعلمنا أن الإنسان لا يعيش معلقاً بين السماء والأرض، بل هو ابن الأرض ومن طينتها خُلق، قال تعالى:(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق،أولم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد).

 

فسطح هذه الأرض هو مستقر هذا الإنسان، وهي مَرْساه، وموطئ قدمه، ومكان خلافته،وإشباع حاجاته ورزقه، وهي التي تستثير عقله ورغباته للتطور، وتتحرش به للاستجابة، ومنها يتعلم التفكير والاكتشاف والاختراع والتجريب، وفيها يدرك نعم الله حين  سخر له المخلوقات، وذللّها لخدمته، وهذه الأرض دليلهُ إلى معرفة الخالق،وإدراك عظمته من خلال التفكير في مخلوقاته، ومنها يطل على السماء، فيستشرف عظمة عالم الغيب، فيها خلق وعليها درج،وإلى باطنها يعود، ومنها يبعث قال تعالى: (فيها تحيَون وفيها تموتون ومنها تُبعثون).

 

وهو محكوم بقوانين الزمان والمكان، والسنن التي تحكمها.وهذا الإنسان بدون الواقع الأرضي هو أشبه بآلة خُلقت لعدم الاستعمال تكون نهايتها الاندثار.