الأخبار

عباس المناصرة يكتب: معركة النقاء والتلوث والانشقاق الثقافي

By عباس المناصرة

May 04, 2019

وقد بدأت هذه المعركة في عهد المأمون العباسي، حيث تجمعت بقايا الثقافات المهزومة أمام الفتح الإسلامي، واستترت داخل المجتمع في تيار عريض، يجمع خليطا من أصحاب البدع والأهواء والمصالح والمغامرين و أعداء الأمة من بقايا اتباع الثقافتين (الهندفارسية) و(اليونارومانية) الطامعين في أحياء ثقافاتهم البائدة.

 

ولم تكن قوة الدولة، وقوة المد الاسلامي، تسمح لهذه الفئات بالظهور العلني، فكانت هذه الفئات تلملم جهودها، وتنتظر اللحظة المناسبة في دار الخلافة .

 

ولما حصل الخلاف بين الأمين والمأمون،استعان الأمين بالعرب، واستعان المأمون بأخواله الفرس ، فلما انتهى الأمين واستقر الأمر للمأمون، استبعد المأمون العرب، وأقصاهم عن عصب الدولة، وقرب إليه أخواله الفرس، ليشكلوا له الحماية والاستقرار، ويصبحوا شركاءه في الحكم.

 

ولم يكن بمقدور العنصر الفارسي إحياء الثقافة الفارسية، بشكل علني ومباشر، ولكنهم رفعوا شعارا مقبولا للجميع، هو تشجيع النهضة العلمية والترجمة.

 

و أصبحت التعددية الثقافية هي المظلة، التي يحتمي تحتها أتباع الثقافتين (الهندفارسية) و(اليونارومانية) ومما يزيد في طمع أتباع هاتين الثقافتين، في تحقيق انتصار ما، على الثقافة الإسلامية ، من خلال التأثير على نقائها، وصبغها بما يستطيعون من ثقافتهم، هو أن الثقافة الإسلامية لا تزال طرية العود، ومعظم علومها وفنونها لا تزال تحت التأسيس وفي مراحل التكوين.

ويمكن إجمال نتائج هذه المعركة على العقل المسلم بالنقاط التالية:

 

1ـ حاول دعاة الثقافة (الهند فارسية) اختراق العقيدة الإسلامية وإفسادها من خلال نظريات الفرق الباطنية، التي بثها دعاة الثقافة الفارسية، حيث أدخلت الفكر الصوفي التناسخي والحلولي الذي كان يتبنى التواكل ومحاربة الأخذ بالأسباب والعمل الجاد في سلوك الأمة، لجرها نحو الضعف،         وظهرت فرق: التشيع، والشعوبية، والزندقة، لإفساد فكرها السياسي والعقائدي، والحط من شانها، وزرع الانهيار النفسي فيها، ولكن هذه الفرق فشلت في التأثير على العقل المسلم، فانفصلت عنه بإيجاد فرقها الضالة المعادية التي تظهر كأنها دمامل في جسد الأمة.

 

2ـ  وبدأ إحياء الثقافة (اليونارومانية) على يد اليهود والنصارى، يدفعهم الطمع المادي في الحصول على الذهب، مقابل عمليات الترجمة، وهم بذلك يحققون هدفاً آخر هو تلويث العقل المسلم، وصبغه بثقافتهم، كما أن هذا التلوث يفتح في العقل المسلم ثغرة تجبر الأمة على الاعتراف بوجودهم ، وتقوي من قدرة ثقافاتهم على البقاء.

 

وقد قام اليهود والنصارى بترجمة الفلسفة اليونانية والثقافة الرومانية وعلم المنطق ، وهكذا تم استيراد العقل الفلسفي إلى دار الإسلام، ليحدث التلوث ويمهد للانشقاق في ثقافة الأمة وعقلها، فيما بعد، وبذلك انشقت الأمة في مرجعيتها وثقافتها إلى ثلاثة تيارات: تيار أهل السنة والجماعة ومرجعيته (القرآن الكريم والسنه النبوية الشريفة)، ثم تيار العقل الفلسفي ومرجعيته( الفلسفة اليونانية وعلم المنطق) وتيار ثالث اتخذ موقفا دفاعيا عن الإسلام، هو تيار علم الكلام المتمثل في  الذين خلطوا بين المرجعيتين (الإسلامية والفلسفية) بهدف محاولة الاستفادة من الفلسفة والمنطق في الدفاع عن قضايا الفكر الإسلامي.

 

3ـ استغل تلاميذ الفلسفة اليونانية غياب الفقه الإسلامي في قضية الأدب والنقد، فترجموا الأفكار اليونانية عن الأدب من (جمهورية أفلاطون، وكتاب الشعر لأرسطو، وكتاب الشعر لهو راس الروماني… وغيرها) والذي أدى فيما بعد إلى إفساد التنظير النقدي عند العرب، فرغم البداية الموفقة لعلوم اللغة العربية ولعلوم البلاغة  العربية ، ورغم استفادة الثقافة العربية والإسلامية من هذا التعدد الثقافي، إلا أن تلاميذ الفلسفة اليونانية أحاطوا البلاغة العربية والنقد بجفاف المنطق الأرسطي، الذي جرها إلى الجفاف والتحنط على يد القزويني والسكاكي وغيرهم فيما بعد، وظهرت ثمار ذلك في قتل الأدب العربي في عصور الانحطاط، يوم أصبحت مقاييسها الصارمة الجافة تحكم التأليف ،عند الأدباء والشعراء وحتى المؤلفين في العلوم الأخرى، من خلال سيطرة الجناس والطباق والبديع على الأساليب، وكذلك تسربت إلى النقد روح فصل الأدب عن الدين، وهي دعوة قديمة موجودة في النقد الإغريقي.

 

4ـ ومما ساعد العقل الفلسفي على فتح هذه الثغرة الكبيرة في العقل المسلم، هو انحياز المأمون  للعقل  الفلسفي وتمسكه بمنهجه، و حيث كان العقل  الفلسفي هو  التيار المتبنى رسميا من الدولة العباسية، وكان المأمون يتباهى بذلك ويحميه ويفسح له المجال، وينفق عليه من أموال الأمة، فقد وصل الأمر به إلى أن يقابل المخطوط المترجم من اليهود والنصارى بما يقابله من الذهب في الميزان، ولم يكتف بذلك بل تبنى أطروحاته في مسألة خلق القرآن وأراد أن يجبر الأمة عليها، وبدأ باضطهاد أهل السنه والجماعة الذين وقفوا في وجهه، ورمى بهم في غياهب السجون، وما قصة سجن الإمام أحمد بن حنبل وتلاميذه عنا ببعيد.

 

5 ـ وبعد مجي الفرس إلى سدة  الحكم  على يد المأمون، توالى خلفاء بني العباس في جلب شرائح أخرى حيث ادخل المعتصم الأتراك في الجيش لحمايته، واستمر دخول هذه الشرائح في جسم الدولة من شعوب مختلفة: كالأتراك و البويهيين والأكراد والسلاجقة والمماليك وغيرهم، وظل الخلفاء يعتمدون على هذه الشرائح في حماية أنفسهم، وكان هؤلاء العسكر لا يعرفون العربية ولا الثقافة الإسلامية، وعندما ضعف الخلفاء أخذ هؤلاء العسكر يستقلون بولاياتهم عن الخلافة، ويؤسسون دويلات لهم وعندما أداروا هذه الدويلات، أهملوا شون العلم والعقل والثقافة واللغة العربية وتراكم ذلك من عصر إلى عصر في عصور الانحطاط حتى وصلت نسبة الأمية في اللغة العربية إلى ما يزيد عن 99% في نهاية العهد العثماني، وولدت أجيال وأجيال من الأجداد والأبناء والأحفاد يتوارثون الأمية كما يتوارثون المتاع، فانقطعت صلة الأمة بالقرآن الكريم، ونشأت أمية العلم بالإسلام، كنتيجة طبيعية لأمية الكتابة والقراءة، وبذلك انقطع عقل المسلم عن مرجعيتة، وتوقف عن العلم والإبداع والتميز لعدة قرون ونام في سبات عميق.

 

6ـ أضف إلى ما سبق ما تخلل عهود الانحطاط من ضربات موجعة أثرت على قوة المسلمين العسكرية والعلمية والثقافية، وأذهلت العقل المسلم عن ذاته، كالغزو الصليبي الذي استنزف قواه من الغرب، ومن بعده الغزو المغولي الذي أتى على الأخضر واليابس من الشرق.