كليبر في حديقة المقر العام للقيادة بالقاهرة مع رفيقه المهندس المعماري بروتان، يقترب منه شخص يتصور أنه صاحب التماس ما، فيتم طعنه هو ورفيقه عدة طعنات بسكين وعلى إثر الصرخات المتتالية يتقدم منه حراسه الذي يجدونه في النزع الأخير ويجري القبض على سليمان الحلبي الذي اختبأ في حديقة مجاورة ويتم تعذيبه على يد قائد يسمى برتيليمي كي يعرفوا من وراءه، وساد الزعر سكان القاهرة فقد توقعوا مذبحة ستجرى لهم على إثر هذا الاغتيال، وعلى الجانب الآخر توقع عساكر فرنسا بداية لانتفاضة جديدة عليهم من سكان مصر.
سليمان من الحبيبة سوريا المرتبطة بمصر تاريخا وجغرافية ودينا ومصيرا، لم يعجبه حملة التنوير الفرنسية!!! (لم يلوث بفكر المستشرقين والمهزومين ولكن مملوء بنقاء عقيدة الولاء والبراء) ورأى التحام كل من هو غير مسلم بالمحتل نكاية في الإسلام والمسلمين، حركه فكر نابع من عقيدة سليمة البناء والتكوين داخله تجاه المحتل الصليبي دون أن يعبأ بعاقبة فعله، وأثناء حفلة التعذيب الفرنسي للشاب المسكين ليعرفوا إن كان يتصرف بمفرده أم خلفه عمل منظم لتكشف التحقيقات معه أن بعض مشايخ الأزهر علموا بنيته فحاولوا إثنائه عن الفعل دون إبلاغ لسلطات الاحتلال، فيأمر الحاكم العسكري باستدعاء الشيخين الشرقاوي والعريشي للاجتماع معهم وإصدار أمر لهم بالقبض على عدد من شيوخ الأزهر، وتعقد المحكمة العسكرية التي تقضي بقطع زند سليمان الحلبي وخوزقته والاكتفاء بقطع رؤوس المشايخ المقبوض عليهم، ثم تجري جنازة عسكرية مهيبة لبطلهم المزعوم كليبر، تجوب مصر ثم إطلاق المدافع ودفنه، ثم التوجه مباشرة بقطع رؤوس المشايخ المقبوض عليهم وقطع زند سليمان الحلبي ثم خوزقته وهو ينطق الشهادتين وآيات من القرآن الكريم، ويظل أربع ساعات على قيد الحياة بعد الخوذقة وبعد انصراف شهود الذبح والإعدام يقوم جندي فرنسي بمناولة سليمان كوبا من الماء وبعد موته يأخذون رأسه ليدرس عليها طلاب الطب في بلادهم (ويعلق لورانس قائلا سعيا إلى تمكينهم من رؤية علامة الجريمة والتعصب!! باعتبار أن سليمان هو المجرم المتعصب، أي فجر وأي بجاحة مملوء بها) قبل وضعه في متحف الإنسان، فما هي نوع الإنسانية والبطولة في الحلول من بلادهم للسطو على آمنين آخرين في بلادهم وأخذ رؤوسهم ليحتفظوا بها في متحف؟! إنها فرنسا الصليبية.
مينو خلفا لكليبر
لم يكن مرغوبا فيه بصفة كاملة من قبل القادة لكن الاتصال بفرنسا قد يستغرق وقتا طويلا لا يحتمله معنويات عساكر فرنسا التي هي في أدنى مستوياتها، بالنسبة إليهم مينو ليس هو القائد الذي يسوس الرجال.
ولكن جمهرة الجيش آثرت التعامل مع الوضع الجديد، بعد أن كانوا يتطلعون لمغادرة مصر في أسرع وقت فإنهم صاروا ينتهجون منهج المستعمرين لآجال طويلة في مصر فبدأوا بالعناية ببيوتهم، وأقاموا الحفلات والمآدب والعروض المسرحية ورغم ذلك ليسوا متحمسون في العموم لاستعمار مصر.
بدأ مينو في تسوية الأوضاع في مجملها وعلى رأسها الإيرادات الضريبية، فهذه تطرح مكانة النصارى ولم يكن مينو يكن احترام يذكر لهم وفي المقابل هم لا يرتاحون إليه بعد تحوله لاعتناق الإسلام، وأصبح يتعين على المعلم يعقوب أن يرسم لوحة جديدة للإدارة المالية لمصر، وسوف يجر بالتحقق من صدق حسابات الأمناء النصارى وسوف يتعين على الأمناء النصارى الخمسة الكبار أن يردوا إلى السكان جميع المبالغ المالية التي تجبى دون وجه حق من جانب مرؤوسيهم، وهنا يتدخل بقية القادة الفرنسيين خوفا من انخفاض الدخل الضريبي بعد الاستجابة لشكايات الفلاحين، ولكن مينو يصر على أن يشارك النصارى بمليون ونصف المليون فرنك في الضريبة غير العادية التي فرضت بعد الانتفاضة الثانية.
لاسيكارس والمعلم يعقوب
وضع لاسيكارس (فارس مالطة السابق) والمعلم يعقوب خطة فرنسة مصر لإرساء وضع جديد يظل قائما حتى بعد زوال الاحتلال (الشكلي أمام أعيننا)
أصبح الحديث عن ما يسمى بموضة “بعث مصر من جديد” وهي التي ما زالت تبهر العالم بحضارتها الفرعونية، ولكي يتم هذا البعث لابد من تساوى نسبة كل الطوائف في سدة الحكم (دون مراعاة لعدد كل طائفة) وهي الطوائف التي تجاوزها الإسلام الأكثر عددية تمهيدا لوصول المصريين ألي طائفة واحدة هي “طائفة الفرنسيين” وسبيلهم لتحقيق ذلك هو تعزيز نصارى مصر بما يضمن إزاحة الإسلام (فرنسا الصليبية مع المعلم يعقوب بجيشه يرغبون في إزاحة الإسلام من مصر) إلا فيما يخص الأفراد في طقوسهم الحياتية، ويقوم لاسيكارس بإرسال رسالة إلى مينو بذلك فيرد عليه مينو بأنه لا يثق في نصارى مصر.
يعود لاسيكارس ليغري مينو بجديد آخر يرسخ الطائفية في مصر فيعرض عليه أن يرسل المعلم يعقوب مع بعض الجنود الفرنسيين وخمسة أو ستة آلاف من الجنود النصارى إلى النوبة لإنشاء مستعمرة هناك ومربحة لفرنسا، وهناك سوف يكون للحزب المصري المماليء لفرنسا قاعدة راسخة في حال جلاء فرنسا عن مصر وسوف يكون لاسيكارس هو مفوض الحكومة الفرنسية هناك، ومن ثم سوف تكون عودة الفرنسيين سهلة.
مينو ينتهج سياسة جديدة
كان مينو ينتهج سياسة جديدة، فقد عمل على تنظيم الضرائب من جديد واستبعد الجباة النصارى وجعل التعامل مباشرة من الفلاحين للفرنسيين وحث عساكره على إحسان التعامل مع المصريين.
ولما حدث نقص ملحوظ في ملابس العساكر قام القادة الكبار بتكليف أحد المطلعيين بالصناعة بفتح مصنع لصنع ملابس الجند وأخبر مينو المديرين بتعليم المصريين هذه الصناعة حتى يتركوه لهم عندما يغادرون مصر ولكن المديرين رفضوا أن يعلموا المصريين خشية منافسة صناعتهم فيما بعد ورفضوا أن يدخل المصريين إلى الورش، ويعلن المدير أنه لن يعلم المصريين أي شيء وفي حال مغادرتهم لمصر سيقوم بتدمير المعدات وتخريبها فيضطر مينو التراجع أمام إصرارهم.
أما إدخال المطبعة، لولا تولي مينو الحكم في مصر لتأخر دخول المطبعة إلى مصر على الأقل مائة عام ولو كان نابليون أو كليبر لما تركوا المطبعة في مصر بدليل أنهم رفضوا الإبقاء على مصنع للملابس فكيف كانوا سيتركون المطبعة التي فجرت ينابيع العلم والمعرفة وسهلت الحصول على المعلومة؟!
ومما لاشك فيه أن المطبعة حافظت على التراث بأنواعه من التلف أو الاندثار فضلا عن وصول هذه المؤلفات للسواد الأعظم من الناس مما سيشجع على السعي الحثيث إلى التعلم لسهولة تداول المعرفة وسريان التنوير في الجموع الغفيرة من المجتمع في مصر والذي بالقطع كان سيسري في بقية الأقطار لتقود مصر القاطرة كما قال جمال حمدان.
هاجم مينو اليونانيين وأمر بمراقبة نشاطهم في دمياط، كما أنه لديه عداوة عميقة لدى اليهود والنصارى وبالأخص نصارى الشام، ويريد إنهاء أعمال النصارى كجباة للمال والضرائب.
وأرى أن الدافع الأكبر في ذلك لأئمتهم الذين استغلوا قدوم المحتل الذي يماثلهم في الدين وتصوروا إنه سيجعل من مصر دولة مسيحية، ولم يفطنوا إلى كون المحتل في أي زمان ومكان لا يأبه إلا بمصلحته في المقام الأول وأنهم حلو إلى مصر لجعلها مستعمرة فرنسية ليحلبونها بغض النظر عن الدين، وفي ذلك يقول مينو طبقا لمروية هنري لورانس:
«إنني قد عرفت منذ أن جئت إلى مصر أن المسيحيين هم أكثر سكان هذا البلد حقارة وخسة ومن بينهم يحتل المسيحيون الشوام المقام الأول، بخلاء، جبناء، مخادعون، حقودون وخسيسون إلى أقصى حد، تلك هي صورتهم ومهمتي هنا هي أن أجلو تقريبا كل وجه مصر، بالتوفيق دائما بين مصالح الجمهورية (فرنسا) ومصالح الجيش ومصالح السكان، ولابد من الوصول إلى ذلك من القضاء على تلك الروح المدمرة والتي تمثلت نتيجتها في ظل حكم البكوات (المماليك) في تركيز كل الثروة في أيدي عدد صغير من الأفراد، وعندما جئنا إلى هنا تصور المسيحيون أننا لسنا إلا مماليك فرنسيين ومسيحيين سوف يحلون محل مماليك جورجيين ومحمديين، وقد تصوروا أنالسادة الجدد سوف يستخدمونهم بالشكل نفسه الذي استخدمه السادة السابقون، وهنا بالتحديد بدأوا يخطئون لأول مرة في حياتهم، لأنني أريد تأسيس المستعمرة الجديدة على الأمانة والأخلاق»
بالطبع مينو لم يدخل بيوت النصارى (نصارى هي مفردة قرآنية ولفظة مسيحيين لم ترد ولا حتى في الإنجيل الحالي بعهديه) بيت بيت ويعرفهم فردا فردا ولم يقل لنا أن لديه جهة بحثية قامت بعمل إحصائية أو تقصي حقائق ليخلص في النهاية إلى هذا الرأي والذي يوضح أن من تعامل معهم هم المتعصبون المؤدلجون، ولكن يبقى السؤال من الذي يجعل المجانين يتصدرون المشهد؟
وللحديث بقية إن شاء الله