الأمة الثقافية

قرأتُ لك: هل انتصر التعريب في الجزائر؟

By يسري الخطيب

December 20, 2021

يرى مختصون في الشأن اللغوي أنّ قضية التعريب في الجزائر شكّلت، على مدى 6 عقود من الاستقلال، معركة بأبعاد لغوية وثقافية وأيديولوجية وسياسية ترتبط بمراكز القرار والنفوذ، وذلك على خلفية الانقسام النخبوي الذي خلّفه الاستعمار الفرنسي.

وإذا تمكنت الجزائر -بعد 59 عامًا من استرجاع سيادتها الوطنية- من تعريب التعليم العام بكل أطواره، والعلوم الإنسانية بالجامعات، وكثير من القطاعات الوزارية، فإنّ الفرنسية لا تزال -في تقدير مراقبين- نافذة في الإدارات المركزية والمحليّة وبدوائر الاقتصاد والماليّة والدبلوماسيّة.

كما أنّ كثيرا من مظاهر المحيط العام بالمدن الحضرية الكبرى على غرار اللافتات الإشهارية وفضاءات الخدمات التجارية والسياحية تعكس -برأي تيار التعريب- تغلغل الفرنسية في الجزائر.

بل إنّ مدارس خاصة ورياض أطفال تفرض الفرنسيّة في مناهجها بطريقة مخالفة للقوانين، بحسب تحذيرات وزارة التربية في عديد المناسبات.

ومؤخرا، أعادت تعليمات دوائر حكومية لموظفيها -بشأن إلزامية احترام القانون في ما يتعلق باستعمال اللغة الرسميّة- قضية التعريب إلى واجهة النقاش في الجزائر، خاصة أنه كان من الشعارات الرئيسة في حراك 22 فبراير 2019.

التصحيح اللغوي

من المعلوم أنّ الدولة الجزائرية واصلت بين عامي 1962 و1963 تعاملاتها باللغة الفرنسية عبر كل الأجهزة الإدارية والاقتصادية، لأنّ الرئيس أحمد بن بلة نفسه وجل إطارات الدولة من خريجي المدرسة الفرنسية لا يتقنون العربية.

ولأول مرة، نصّ دستور عام 1963 على أن العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، قبل صدور أولى الإجراءات العملية للأمر الرئاسي يوم 26 أبريل 1968، المتضمن إجبارية معرفة اللغة العربية على الموظفين.

وهو ما دفع بالمفرنسين إلى الانخراط في دورات تعليمية ودروس محو الأمية في العربية للحفاظ على مناصبهم، إلا أن القانون لم يحمل الصيغة الإجبارية في تعامل الإدارة بالعربية، حسب ما يؤكد بشير فريك في كتابه “الهيمنة الفرنكوفونية على الإدارة الجزائرية”.

وتقدم الرئيس هواري بومدين خطوة أخرى عام 1970، بإصداره أمرية جديدة بوجوب تعريب وثائق الحالة المدنية، ونقل كل السجلات العائلية من الفرنسية إلى العربية، وتبع ذلك تعريب الأختام الرسمية 

وسبتمبر 1971، أشرف بومدين على تنصيب اللجنة الوطنية المكلفة بعملية التعريب في كل قطاعات الحياة العمومية، لتحتضن الجزائر المؤتمر العربي الثاني  للتعريب بعد مؤتمر الرباط، وفقا لما يسجله عبد القادر فضيل في كتابه “معركة الهوية في الجزائر”.

ويعدّ صدور أمرية المدرسة الأساسية يوم 16 أبريل 1976، المكرسة للانتماء العربي الإسلامي لها، من أبرز إنجازات المرحلة “البومدينيّة” لصالح التعريب، وفق المصدر ذاته.

وفي غضون ذلك، استمات التيار الفرنسي في المقاومة، خاصة في الإدارة والتعليم والجامعات، مما أدى إلى إضرابات واحتجاجات طلابية، امتدت إلى الثانويات خريف 1979، بل سقط  خلالها ضحايا في مواجهات دامية، بحسب شهادات موثقة.

ثمّ تدخلت جبهة التحرير الوطني -الحزب الوحيد القائد للدولة- خلال مايو 1980 لتقرير تعميم استعمال اللغة العربية وإلزام الوزراء، وهم أعضاؤها، بتطبيق القرار وتقديم عروض حال عن سير العملية، وفق ما يثبته أرشيف مداولات الحزب.

لكنّ ظهور “المجمع الجزائري للغة العربية” تأخر إلى غاية السابع من يناير 1984، وبعدها بـ4 سنوات صدر القانون بإجبارية تعريب مهنة التوثيق.

عهد جديد

بإقرار دستور 23 فبراير 1989، دخلت الجزائر عهدا جديدا من التعريب في سياق الانفتاح السياسي، حيث صدرت قوانين كثيرة تفرض التعامل باللغة العربية.

وبموجب ذلك صارت الأحزاب والجمعيات والوزارات والإدارات المحلية والنواب والمحاكم  والمؤسسات الإعلامية مجبرة على التعامل مع المواطنين باللغة العربية.

ثمّ تبنّى البرلمان الجزائري القانون الأكثر شهرة في هذا المجال، وهو تشريع تعميم استعمال اللغة العربية الصادر في السادس من يناير 1991، قبل حدوث الردّة عنه بتوقيف المسار الانتخابي في 11 يناير 1992 وصعود “التيار الفرنسي” إلى الحكم، عبر “المجلس الأعلى للدولة”، وكذا “المجلس الاستشاري”، حسب ما يعتقد الكاتب فريك.

وكان من أهم القرارات المستعجلة التي وقعها تجميد قانون تعميم التعريب إلى غاية بعثه مجددا، في عهد الرئيس ليامين زروال، بتاريخ 21 ديسمبر 1996، وإحياء المجلس الأعلى للغة العربية.

وحدد القانون المذكور آجال التعميم بتاريخ الخامس من يوليو 1998، في حين مدّد المهلة بالنسبة للتدريس في كل المعاهد ومؤسسات التعليم العالي إلى أجل أقصاه الموعد نفسه من عام 2000.

غير أنّ عبد العزيز بوتفليقة -بوصوله إلى الرئاسة ربيع 1998- غيّب القانون وتجاهله عمليّا بمخاطبته المواطنين باللغة الفرنسية، والكلام للكاتب فريك أيضا، مما شجع “غلاة التغريب على طيّ صفحة التعريب مؤقتا”، إلى غاية اندلاع حراك فبراير 2019.

أعداء التعريب

وفي تحديده لخصوم التعريب، يؤكد المحافظ السابق بشير فريك -بحكم خبرته الطويلة في الإدارة الجزائرية- أنّ “العدو الأول والتاريخي وبدون منازع هو الاستعمار القديم الذي عمد إلى ضرب العربية وتهميشها وإبعادها عن الحياة العمومية في الإدارة والمدرسة والمعمل والثقافة ليحصرها في المساجد والمقابر”.

وأوضح أنّ منفذي فرْنسة الإدارة بعد الاستقلال هم الأخطر على العربية والهوية، وهؤلاء يقسّمهم إلى صنفين: كبار المنظّرين والمنتصرين للفكر الفرانكوفوني، من خريجي المدارس والجامعات الكولونيالية، وأبناء العملاء السابقين النافذين في المؤسسات السيادية والإستراتيجية بالدولة.

وذكر أيضا بقايا الأعوان والموظفين والمعلمين والأساتذة ورجال القضاء وإطارات القطاع الاقتصادي والخدمات الموروثة عن النظام الاستعماري.

كما أشار إلى عصب الإدارة الجزائرية وهيئاتها بالقطاعات الحيوية العمومية، وهم إطارات عليا ومتوسطة من خريجي التعليم العالي التقني والعلمي.

وقال المتحدث إنّ المعايشة الميدانية، لا سيما الثقافية والإعلامية والاقتصادية، تثبت التحالف العضوي للفرانكفونيين مع بقايا الشيوعيين في الجزائر.

وأضاف إلى هؤلاء “المبشرين الجدد” من دعاة الأمازيغية التغريبية المرتبطين بمدارس ومخابر التنظير الفرنسي الحاقد على العربية والإسلام، مُستثنيًا التيار الأمازيغي الوطني.

واعتبر أنّ من يطلق عليهم وصف “ضباط فرنسا”، الذين برزوا في عهد الشاذلي بن جديد، ثم أمسكوا قبضتهم على السلطة بعد رحيله، قد أدّوا دورا قويّا في محاربة التعريب.

وختم المتحدث تشخيصه بالقول إنّ أعداء التعريب في الجزائر يشكلون شبكة أخطبوطية قوية ولوبيّات منظمة متحالفة ومتآزرة، لكن أنصار التعريب في حالة ضعف وتشتت.

آفاق التعريب

وعن مستقبل العربية في الجزائر، أكد أستاذ اللسانيات بجامعة الجزائر الأكاديمي محمد قماري أن هناك مقتضيات تقع على كاهل الدولة وأخرى معززة على عاتق النخب، ودعا السلطات للقيام بالوقاية ومكافحة التلوث اللغوي على كل مستويات الإدارة والحياة العامة، احتراما وترسيخا لمفهوم الوطن وهويته، وتعزيزا لاستقلاله، واعتبار هجرة عقول أبناء الوطن الثقافية والعاطفية مدخلا يهدد الأمن القومي.

وشدّد على تشجيع كل إبداع باللغة الوطنية الجامعة في مختلف المجالات، وأن “تعمل الجامعات على تحيين مضامينها العلمية في مختلف التخصصات باللغة العربية، بتشجيع حركة الترجمة المحكّمة، لأن النصوص المشوهة ضررها أكبر من نفعها”.

كما ألقى بالمسؤولية على الإعلام في الارتقاء بالذوق العام في مجال استخدام اللغة، والتصدي لموجة التلوث اللغوي بداعي التقرب من العامة.

أمّا بشير فريك، فيرى أن إشكالية التعريب في الجزائر تبقى قضية صراع حضاري وفكري، “لا يمكن معالجتها بقوانين أو نصوص، ما لم يتم الانتصار لها عن طريق إعادة صياغة المشروع الحضاري الوطني في الأساس، بإعطاء الكلمة للشعب ورفع الوصاية عليه”.

——–

المصدر: الجزيرة