كمال الخطيب

الأخبار

كمال الخطيب يكتب: إن لم تكن ابن حنبل.. فكن أبا الهيثم

By كمال الخطيب

November 04, 2019

✍️ قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: “كثيرًا ما كنت أسمع أبي يقول: اللهم اغفر لأبي الهيثم، اللهم ارحم أبا الهيثم. فقلت له ومن أبو الهيثم يا أبت؟ فقال رجل من الأعراب لم أر وجهه!! ففي الليلة التي سبقت جلدي وضعوني في زنزانة مظلمة فوكزني رجل وقال: أأنت أحمد بن حنبل؟ فقلت أجل، قال أتعرفني؟ قلت لا. فقال: أنا أبو الهيثم العيار اللص، شارب الخمر، قاطع الطريق مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني جلدت ثماني عشرة ألف جلدة وقد احتملت كل هذا في سبيل الشيطان، فاصبر أنت في سبيل الله يا أحمد. فلما أوثقوني وبدأ الجلد فكنت كلما نزل السوط على ظهري تذكرت كلام أبي الهيثم وقلت في نفسي اصبر في سبيل الله يا أحمد، إن لم تكن ابن حنبل فكن أبا الهيثم”.

 

✍️ إنها واحدة من قصص الثبات على الحق وعدم محاباة أهل الأهواء والمساومة على دين الأمة وثوابتها سطرها إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله. إنه الذي كان بمقدوره أن يعيش في رغد وهدأة بال بعيدًا عن السجن والزنزانة والإذلال والسياط، لكنه اختار الطريق الذي به يحفظ دين الأمة وثوابتها وإن كان الثمن غاليًا جدًا.

 

✍️ ولئن كان الإمام أحمد قد خذله العلماء والفقهاء من الذين كان يتوجب عليهم أن يكونوا من أصحاب كلمة الحق في وجه سلطان جائر لكنهم تمالأوا عليه وانحازوا للسلطان على حساب القرآن، وإذا بالإمام أحمد يأتيه النصر والتثبيت والمدد المعنوي من شارب خمر وقاطع طريق ولص شرير.

 

إنه الإمام أحمد في هذا الزمان يؤدي نفس الدور وإن كان بأسماء أخرى وأماكن هي ليست بغداد، وفتن ليست كفتنة خلق القرآن. إنهم الدعاة والعلماء والمفكرون الذين انحازوا للإسلام في الزمان الذي أدار الحكام ظهورهم له بل وطعنوه في الصدر وفي الظهر. إنها الزنازين مشرعة الأبواب وإنها السجون تبنى أكثر مما تبني المشافي والجامعات، وإنهم أشراف الأمة وأخيارها يودعون فيها لا لشيء إلا لأنهم صدعوا بكلمة الحق وانتصروا لدين الله تعالى.

 

✍️ نعم فإذا كان أهل الباطل يحتملون في سبيل الشيطان ومن أجل باطلهم، فأولى بأهل الحق أن يحتملوا في سبيل الله وفي سبيل راية الحق أن تظل مرفوعة عالية. ولأن البلاء يصب على أخيار الأمة صبًا والسهام مصوّبة إليهم من كل جانب، فما أجمل أن نواسي بعضنا بعضًا وأن نتذكر كلما اشتد الظلم والبلاء ما قاله الإمام أحمد اصبر في سبيل الله يا أحمد، فإن لم تكن ابن حنبل فكن أبا الهيثم فيا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.

 

✳️ لا نجاح بلا تعب

 

✍️ يحكى أن ملكًا جمع حكماء مملكته وطلب منهم أن يضعوا منهجًا للشباب وللجيل القادم، يعينهم على النجاح. اجتمع الحكماء عده أشهر وخرجوا بكتاب بل مجلد ضخم يحوي آلاف الصفحات جمعوا فيه كل ما يعين ويساعد على النجاح من قواعد وتجارب وحكم وجاؤوا به إلى الملك.

 

قلّب الملك صفحات الكتاب الذي هو عصارة فكر عقلاء وخبراء وحكماء قومه، إلا أنه قال هذا منهاج طويل ولن يفيد الشباب، وطلب منهم أن يختصروه. جاؤوا بعد مدة وقد اختصروا المنهاج في مئات الصفحات إلا أنه رفضه أيضًا ثم وضعوه في عشرات الصفحات وكذلك رفضه الملك.

 

بعد مداولات ومشاورات وبعد أن أضناهم التعب وأمام رفض الملك لخلاصة ما جاؤوا به، فأجمعوا أمرهم أن يجعلوا المنهاج في جملة واحدة كتبوها وقدّموها إلى الملك “اعلموا أنه لا نجاح بلا تعب”. سُرّ الملك بهذه النتيجة وهذه القاعدة التي سميت بالقاعدة الذهبية للنجاح، وهي ما يشار إليها بعلو الهمة.

 

✍️ إنها القاعدة تصلح منهاجًا لمن يريد أن يتعلم حرفة تصبح هي مصدر رزقه ووسيلة كسبه ويعيش بواسطتها عيش الأعزاء الكرماء، وتصلح كذلك لمن يريد أن ينهض بالأمة ويبني دولة ويصنع مجدًا، فإن هذا لن يكون أبدًا بلا تعب ولا بذل جهد، بل إنها القاعدة التي تصلح ولا يصلح غيرها لمن يريد أن ينال الجنان وصحبة العدنان وضيافة الرحمن “ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة”. فمن أتعب نفسه وأسهر ليله فحريّ به أن يحصد من الأعمال أفضلها، ومن الرتب أعلاها. أليس كل عالم ومكتشف وكاتب قد أفنى عمره وأسهر ليله ونال من التعب الكثير حتى استطاع أن يترك للناس علمًا ينتفعون به؟ أليس أحمد شوقي قد قال:

 

وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

 

✍️ وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مثال وقدوه، وهو الذي لاقى من قومه ما لاقى وناله من الأذى ما ناله، وهو يقول لخديجة رضي الله عنها: “انقضى عهد النوم يا خديجة” فكانت ثمرة جهده وجهاده صلى الله عليه وسلم أن بلغت دعوة الله ربوع العالمين. وهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقد قالوا له: ألا تتفرغ لنا؟ فقال: وأين الفراغ؟ ذهب الفراغ ولا فراغ ولا مستراح إلا تحت شجرة طوبى أي في الجنة.

 

✍️ نعم إن غاية المسلم أن يبلغ الجنة بإذن الله تعالى. ومن الوسائل التي تعينه على ذلك أن يعيش في بيئة تحتكم إلى شرع الله تعالى وهي ما تسمى الدولة الإسلامية التي هي غاية في الدنيا ولكنها وسيلة للآخرة، فهل هذا الأمر يتأتى من غير جهد وبذل وعطاء، وهل يتحقق ذلك بغير سهر وتفان ودماء، لا وألف لا.

 

إن من يظن أن ذلك يتحقق دون أن يبذل المسلمون وقتهم وأموالهم وأرواحهم في سبيل الله ومن أجل الدين، فإنما هو الوهم والسراب. ان سلفنا الصالح رضي الله عنهم وهم الذين نقرأ سيرتهم العطرة من الذين هجروا الأوطان وانتشروا في الأرض يحملون أرواحهم على أكفهم، فمنهم من مات على حدود سور الصين العظيم، ومنهم من دفن إلى جوار أسوار القسطنطينية، ومنهم من دفن على ضفاف بحر الظلمات “المحيط الأطلسي” هؤلاء هم الذين بذلوا الجهد الذي بسببه كان النجاح بأن أصبح للمسلمين دولة ولها عز ومجد حملت رسالة الإسلام للعالمين. فيا أيها الشباب اعلموا أنه لا نجاح بلا تعب، وما أجمل ما قاله الدكتور حسان شمسي باشا في كتابه – قمم تهوى النجاح – “ولا تجعل يومك كالأمس، تعلم، تطور، استفد، تقدم فالله تعالى يقول: وسارعوا، سابقوا، وفي ذلك فليتنافس المنافسون، لمثل هذا فليعمل العاملون”. فوقود النجاح طموح ورغبة في التميّز والتألق، فتطلع لمعالي الأمور وكن عالي الهمة متوقد العزيمة فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها”.

 

✳️ بين وعد بلفور والوعد الحق

 

✍️ يوم غد السبت 2/11 يوم ذكرى صدور الوعد المشؤوم الذي أصدره وصرّح به وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور عام 1917، والذي ينص على حق اليهود في أن تكون لهم دولة على أرض فلسطين، تلك البقعة المباركة التي دنّسها الإنجليز في تلك الأيام العصيبة من تاريخ الأمة حيث الحرب العالمية الأولى ألقت أوزارها، وحيث كانت الدولة الإسلامية العثمانية تترنح تحت ضربات الجيوش البريطانية والفرنسية من خارجها، وحيث مظاهر الضعف والوهن والتمزق كانت تضربها من الداخل، فما كان أسهل أن يتم الإعلان قبل وعد بلفور في سنة واحدة أي عام 1916 عن اتفاقية سايس بيكو والتي نصّت على تقسيم الدولة العثمانية بين الدول الاستعمارية الأوروبية، فكانت فلسطين من نصيب بريطانيا ولذلك وبعد عام 1917 كان وعد بلفور لليهود حيث هو وعد من لا يملك لمن لا يستحق، ولكنها غطرسة القوة وصلف الاستعمار.

 

✍️ لم تمض سوى عشرين سنة على صدور وعد بلفور في أوج الحرب العالمية الأولى إلا والحرب العالمية الثانية تفجع العالم بوحشية الإنسان الأوروبي بحق الأوروبي المسيحي مثله، ولكن هذه الوحشية برزت أكثر بالجرائم والمحارق التي ارتكبها الألمان الأوروبيون المسيحيون بحق اليهود، ليجد اليهود فرصتهم في استعطاف العالم بضرورة أن يكون لهم دوله يلجأون إليها، وليجد الانجليز وحلفاؤهم فرصتهم في التكفير عن جريمة أوروبا بحق اليهود، فلم يكن ذلك إلا عبر تفعيل مظاهر تنفيذ وعد بلفور وتسريعها حيث سبق ذلك تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين بحماية ومباركة سلطات الاستخراب البريطاني ومندوبها السامي في فلسطين، حيث أنه وبعد ثلاثين سنة من وعد بلفور وتحديدًا في العام 1947 صدر مشروع التقسيم الظالم لفلسطين وما اعقبه من تغوّل العصابات اليهودية بحماية الجيش البريطاني وبتواطؤ فرنسي وخيانات الأنظمة والجيوش العربية يومها، ليكون العام 1948 عام نكبة وتهجير شعبنا الفلسطيني وإعلان التنفيذ الرسمي لوعد بلفور يوم 15/أيار/ 1948 بإعلان إقامة إسرائيل على حساب تدمير 539 قرية ومدينة فلسطينية وتهجير قريبًا من مليون فلسطيني، واستمرار وقاحة ترديد مقولة أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.

 

✍️ إحدى وسبعون سنة مرت على ذكرى النكبة ومائة سنة وسنتين على وعد بلفور وقضية شعبنا الفلسطيني ما تزال حاضرة رغم كل الجهود الشيطانية التي بذلت وما تزال لطيّ صفحتها لا لشيء إلا لأنها قضية عادلة لشعب مظلوم لم يعتد على أحد ولم يغتصب أرض شعب آخر.

 

لكن وإن ظن البعض أن زمن الاستقواء الصهيوني بأمريكا خاصة في زمن الرئيس الأصفر وفي الزمن العربي الأصفر والأغبر حيث زعماء الغدر والخيانة والظلم والقهر والاستبداد، فإذا ظنّ هؤلاء أن هذا هو زمن تشييع القضية الفلسطينية إلى مثواها الأخير، فإنهم واهمون وغارقون في الوهم حتى لو عززوا ظنهم الخائب بوجود سلطة فلسطينية بائسة وفاشلة بل ومتآمرة. فإذا ظنوا أن وعد بلفور قد تحقق وعده بإقامة الكيان وأن ترامب سيتحقق وعده بإعلان القدس العاصمة الأبدية الموحدة لهذا الكيان، إلا أن فوق وعد بلفور وترامب فإنه وعد الله الحق الذي لا يخلف بأن ينصر عباده ويستخلف أولياءه وأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وأن تظل هذه الأرض تحمل اسمها وتفاخر بهويتها، وأن كل محاولات طمس الهوية ستذهب أدراج الرياح ولن تكون الأرض إلا لأصحابها، ولن يبقى في القدس إلا أهلها ولن يؤم المسجد الأقصى إلا عُبّاده، ولن يكون لأتباع الوعود البشرية إلا الوهم أمام تحقيق الوعد الرباني الصادق {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} آية 6 سورة الروم.

 

وإن غدًا لناظره لقريب.

 

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون