محمود دحلا

أقلام حرة

محمود دحلا يكتب: شاهد على مجزرة الكيماوي

By محمود دحلا

August 21, 2022

 جميع أفراد أسرتي بمن فيهم ابني المصاب ببتر ساقيه كانوا شهودا على مجزرة الكيماوي التي تمر اليوم ذكراها التاسعة

ما حصل في ذلك اليوم لا تعبر عنه مجلدات ضخمة

وأكتفي بما كتبته ابنتي هذا الصباح ( فما راء كمن سمعا )

بمثل هذه الساعات منذ تسع سنوات.. أصبحنا لا ندري أين نحن.. ولا ندري أين أهلنا.. لم نرَ إلا الجثث والأرقام.. كنا شهداء على مجزرة لم يُرتكب مثلها قط..

وبتنا ليلة لم نَبت مثلها قط..

كان الجو حاراً.. والهواء راكداً.. والحركة ساكنة.. والأصوات بكماء..

الناس نيام..والساعة كانت الثانية والنصف…

فجأة..عمَّ الصراخ..والنحيب والبكاء والدعاء..

قيل لنا : إنه الكيماوي..المجرم قصفنا بصواريخ محملة بغاز السارين القاتل..

لَم نكن على دراية بالتعليمات.. لمْ نعلم أنه إذا فتحنا النوافذ سيكون هلاكنا.. لَم ندر أننا إذا نزلنا إلى الطوابق السفلية سلنقى حتفنا..

حتى إن الهواء الذي نتنفسه لنعيش أضحى سبباً لموتنا وسُمَّاً لنا..لم يقل لنا أحدٌ ماذا نفعل..تجمعنا في الغرفة المتوسطة في منزلنا الذي كان في الطابق الرابع..

وبدأنا نذكر الله ونتضرع إليه..نلجأ له وحده سبحانه..ونقول بصوت عال: ياااااا الله…يااااااا الله…..يا الله…..

بدأنا بالسقوط واحداً تلو الآخر..بدأ الغاز يتعشق فينا حتى أُثقِلت الرموش من حمله..وبدأت الرؤية بالتلاشي..

ونحن نسمع من الخارج أصوات الجيران….والأطفال تنادي: بابا لا تتركنا بااااابااااا

والأمهات ينادينَ أطفالَهن…لكن بلا جدوى…فقد فارقوا الحياة..لم يستطع جسدهم الصغير الاحتمال..بعد ساعة تقريبا ونحن على هذا الحال…

كسر المسعفون الباب علينا..وبدؤوا بالتقاطنا واحداً تلو الآخر..

وكنا قد غشانا الغاز…غشانا السم..ولكن بقدرة قادر لم أتأثر أنا وأخواتي الصغيرات كما تأثر الكبار..فكان عمري وقتها ١٣ عاما..

شهِدتُ الموتى.. شَهدتُ الجثث  الملقاة على الأدراج..

شهدتُ الأطفال الذين خرج من أفواههم الزبد..

شهدتُ أمي…عندما غابت عن الوعي ولم تعد تسمع ندائي.

شهدتُ أختي.. التي بدأ جسدها النحيل بإلقاء مافي بطنها خارجاً بعد أن كانت تصرخ متألمة على ولدها الذي توقف قلبه عن النبض..

كنت كل دقيقتين أصرخ مناديةً أخواتي ..هل أنتنَّ بخير؟؟.. فيجبنني…نعم وأنت؟..

أقول نعم.. كنا قد توزعنا كل واحدة بغرفة.. واحدة مع أخي المصاب عمر.. وواحدة مع أمي ..

وأنا كنت مع أختي التي انهارت من فرط بكائها وأسلمت للغاز نفسها.. بدأ المسعفون بأخذ الذين  مازالوا في وعيهم..

أخذوني وأنا أقول لهم خذوا أمي وأخي وأختييييي..وهم يقولون لي سنأخذ الجميع..(لا تخافي عمو رح ناخد الكل)..

الصورة لزوج أختي، رحمه الله، في جامع زملكا الكبير يودع أمه وأباه وأخاه وأطفال أخيه جميعا وزوجته

عندها اطمأن قلبي..

واستسلمت أنا الأُخرى للغاز..

وذهبت في سبات حتى استيقظت في مكان لا أعرفه والماء ينسكب من كل اتجاه..ورائحة الموت مازالت عالقة في فكري وقلبي قبل أنفي..

لا أعلم أين  أنا..ولا أدري مكاني..ظننت نفسي في يوم الحشر..يوم الحساب..قال لي الممرض يومها

..ما اسمك..قلت اسمي شفاء..قال (هي عايشة)

وانا أنتظر أن يسألني..من ربك؟ ما دينك.؟ من هو نبيك..؟ فوالله لم أحسب نفسي إلا في القبر وهذا منكر ومعه نكير ..

وبينما أنا في هذه الحال..عثرت علي إحدى قريباتنا..وروت لي ما حدث..

وبدأت تجمعنا واحداً تلو الآخر أخذتني وصرنا نبحث بين الجثث والضحايا.. بين الأموات والأحياء.. في البيوت والطبيات (النقاط الطبية) عن بقية الأهل والأصحاب..

كل شيء كان قد مات.. الشجر.. العصافير.. القطط.. الكلاب.. الدجاج.. الأغنام..

فضلاً عن البشر.. رائحة الموت في كل مكان.. ولكن كان فضل الله علينا عظيماً..

فقد وجدنا أهلي.. واجتمعنا مرة أخرى وبدأت معاناة ما بعد السم.. (رؤية الكوابيس.. تقلص كامل العضلات.. الدوار.. عدم الرؤية..)

ولكن بعد شهور من الآلام والأوجاع.. عدنا كما كنا.. عدنا وعزيمتنا أقوى من تلك التي قصفها المجرم الطليق..

باتت آمالنا أقوى.. أحلامنا أكبر.. هتافاتنا أعلى.. اعتقد الغبي أنه تخلص منَّا.. ظنَّ أنه أنقص عددنا.. توهَّم أننا أصبحنا أضعف.. أجبن..

لم يدرِ أننا أمة ولود.. تُرضع أبناءها الشجاعة.. تقاتل حتى آخر رمق.. أمة تأبى الذل ولا ترضى المهانة.. أمّة لا تفنى .. أمة باقية ما بقيت السماوات والأرض..

رغم كل محاولات الطاغية بتدميرنا.. وإذلالنا وكسرنا.. إلا أننا عائدون بإذن الله.. منتصرون كما وعدنا الله.. شامخي الرؤوس.. رافعين للرايات..

منتقمين لِكل دمٍ طاهر سُكب.. لكُل روح بذلت الغالي والرخيص.. لِكل أم ثكلى.. لكُل طفل يتيم.. لكُل من عانى من ويلات الحرب..

واثقين بالله.. متوكلين عليه.. سنعود ونحن على يقين أننا الحق.. والحق أبداً لا يموت..