الأخبار

مصطلحَا “الجاهلية” و”التكفير”

By د. محمد عمارة

January 16, 2018

1- لقد انطلق الغلاةُ، وأصحابُ الفكر المنحرف، من افتعال التناقض بين “الحاكمية الإلهية” و”الحاكمية البشرية”، إلى الحكم بـ ( الجاهلية )، ومن ثم بـ (الكفر)، على المجتمعات التي ارتضت الديمقراطية أداة للحكم، متجاهلين أن هذه الديمقراطية كآليات لإدارة مؤسسات الدولة، فضلاً عن أنها البديل للاستبداد والدكتاتورية والطغيان، فإنها – كآليات – إنما تترجم عن الشورى الإسلامية، التي هي في جوهرها المشاركة في صنع القرار.

ولذلك، فإن الاستفادة من آليات الديمقراطية – مع نشأتها خارج عالم الإسلام – هي استلهام للحكمة التي هي ضالة المؤمن بصرف النظر عن أهلها وعن الفضاءات الفكرية والسياسية التي نشأت فيها.

ثم إن البلاد الإسلامية التي استلهمت هذه الديمقراطية تؤكد دساتيرها أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس والرئيس لتشريعاتها وقوانينها، ومن ثم فهي محمية من أي مفاهيم فلسفية مخالفة للشريعة الإسلامية عرفتها وتعرفها بعض المجتمعات الديمقراطية الغربية.

2- وإذا كانت الحاكمية البشرية بهذا المفهوم لا علاقة لها بالجاهلية التي يتحدث عنها أهل الغلو والتطرف، فإن هؤلاء الغلاة قد انحرفوا بمصطلح الجاهلية عن معناه اللغوي والاصطلاحي في حضارتنا الإسلامية، فالجاهلية في معناها الدقيق هي «زمن الفترة بين رسولين، عندما يكون الشرك هو محور الاعتقاد».

كما أن وجود شوائب جاهلية في المجتمعات الإسلامية لا يعني أنها جاهلية بتعميم وإطلاق، فلقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري الذي ما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الخضراء، أصدق لهجة منه: «يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية»، فوجود شوائب جاهلية، يسعى دعاة الإصلاح إلى تنقية هذه المجتمعات منها، لا يعني جاهلية هذه المجتمعات بتعميم وإطلاق.

3- وبهذا التحرير لمصطلح الجاهلية ينتفي الحكم على مجتمعاتنا الإسلامية بأنها مجتمعات كافرة، تحكمها دول كافرة، إذ الإيمان – الذي هو نقيض الكفر – هو تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين، وعلم حقيقة هذا التصديق القلبي خاص بالله سبحانه وتعالى الذي يعلم وحده خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

كما أن الخلافات والاختلافات التي تمايز بين فرقاء الناس في مجتمعاتنا الإسلامية إنما هي خلافات واختلافات في السياسة، وحول الدولة، والدولة والسياسة عند أهل السُّنة والجماعة – الذين يمثلون 90% من أمة الإسلام – هي من الفروع والفقهيات، وليست من العقائد، ومعايير الاختلاف في السياسات والفقهيات هي «الصواب، والخطأ» و«النفع والضرر»، وليست «الإيمان، والكفر» الذي هو وقف على الخلاف في أمهات الاعتقاد، ولذلك كانت التعددية في السياسات والفقهيات سُنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل، بينما لا تعددية في أمهات الاعتقاد.

4- ولهذه الحقائق، التي جهلها أو تجاهلها الغلاة والمتطرفون، سادت حضارتنا في تراثنا وفي فقهنا مقولات التحذير من التكفير،

فقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (450 – 505هـ/ 1058 – 1111م): «إن التكفير فيه خطر، والسكوت عنه لا خطر فيه، وإن الخطأ في أصل الإمامة وتعيّنها وشروطها وما يتعلق بها (أي في كل ميادين السياسة) لا يوجب شيء منه التكفير، وإن المبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل، والذي ينبغي أن يميل المحصّل إليه هو الاحتراز من التكفير ما وجد إليها سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة هو أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم».

ولقد جهل الذين سقطوا في مستنقع التكفير، مِن الذين يتمسحون بشيخ الإسلام ابن تيمية (661 – 728هـ/ 1263 – 1328م)، ما قاله في التحذير من التكفير، وذلك مثل قوله: «والذي نختاره ألا نكفر أحداً من أهل القبلة»، «وأهل البدع هم الذين يبتدعون أقوالاً لا يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه، ويكفرون من خالفهم فيها، ويستحلون دمه، أما أهل السُّنة، فإنهم لا يبتدعون قولاً، ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفهم، مكفراً لهم، مستحلاً لدمائهم، كما لم يكفّر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والهما، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم، ومن يكفّر الأئمة المخالفين له فهو مستحق للعقوبة الغليظة التي تزجره وأمثاله عن تكفير المسلمين».

وفي العصر الحديث، قال الإمام محمد عبده (1266 – 1323هـ/ 1849 – 1905م): «لقد اشتهر بين المسلمين، وعُرف من قواعد دينهم، أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر»