الأخبار

عباس المناصرة يكتب: مصطلح الأدب في ثقافة العرب.. النشأة والتطور والدلالة

By عباس المناصرة

January 24, 2018

المصطلح هو وعاء لغوي ضخم ومستودع جامع يحتوي في داخله (المناهج والدلالات والحقائق والمكونات..) التي تعكس المخزون الفكري والثقافي لذاكرة الأمة. ومنه مصطلح الأدب.

وهو في تطوره التاريخي (كائن حي ذو هوية كاملة، تسجل ظروف ولادته وتطوره الدلالي، ما يعترض هذا المفهوم أو يعتوره، من صحة ومرض وشحن وتفريغ، وأول ما تصاب به الأمم في أطوار ضعفها الفكري هو طمس مفاهيمها..) واختلاط مصطلحاتها وما يرافق ذلك من إهمال خصوصيات

هويتها الحضارية، وبذلك يحصل الاضطراب وتضيع اللغة الموحدة التي توحد فكرها، وتحميها من الخلاف والتشتت.

مما سبق ندرك أهمية العودة إلى مصطلح “الأدب” وتاريخ ظهوره في ثقافة أمتنا، وما رافق ذلك من تطور لدلالة هذا المصطلح، تساعدنا في إدراك معانيها المختزنة، وما اعتوره من تقلبات، تفيد الباحثين من أبناء الأمة في تذكر مفاهيمها وتأصيل كيانها في لحظات تداعي الحضارات الطامعة عليها.

يقول شوقي ضيف: (كلمة “أدب” من الكلمات التي تطور معناها بتطور حياة الأمة العربية وانتقالها من دور البداوة إلى أدوار الحضارة، وقد اختلفت عليها معان متقاربة حتى أخذت معناها الذي يتبادر إلى أذهاننا اليوم وهو الكلام الإنشائي البليغ الذي يقصد به التأثير في عواطف القراء والسامعين سواء أكان من الشعر أم من النثر).

والملاحظ لمشتقات الكلمة التي كانت سائدة في العصر الجاهلي أنها كانت تدل على المعنى الحسي نحو: الآدب: الداعي للطعام، ومن ذلك المأدبة: الطعام الذي يدعى إليه الناس.

ومع قلة الشواهد التي تتوسع في استعمال الكلمة إلا أنها انتقلت من المعنى الحسي إلى معنى آخر يدل على ما يرافق الكرم والطعام والضيافة والعلاقات الاجتماعية من (تهذيب) يتمتع به (الآداب) المكرم للناس: كأن لا يكون مناناً في كرمه، وأن يكون بشوشاً في استقبال ضيفه، وأن لا ينتقر الضيوف انتقاراً، أي ينتخب وينتقي، بل يكرم الناس جميعاً دون تمييز. وقد يطرح (المتأدب) ما يتمتع به من تهذيب في ضيافته، من ابتعاد عن السلوك المذموم كالجشع في الأكل، والتهام الطعام والإثقال على المضيف. فمن الأول قول طرفة في أخلاق (الآدب) مفتخراً بقومه يقول:

نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب منا ينتقر

ومن أمثلة الثاني قول الشنفرى في (المتأدب) دون ذكر اللفظ ذاته، مفتخراً بنفسه يقول:

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل

وقد تطور اللفظ بدلالته وإن لم تصلنا الشواهد الكافية على ذلك التطور، ولكننا نلمس هذا من خلال أقدم النصوص التي تتصل بهذه الكلمة في فجر الإٍسلام حيث ظهرت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فاحسن تأديبي) ولا يخفى أن المقصد من –أدبني- في هذا النص يعني (علمني وهذبني).

وهذا يدل على أن هذه الكلمة كانت في عهده صلى الله عليه وسلم مادة (التهذيب والتعليم) وفي ذلك إشارة لتطور هذا المعنى في نهاية العهد الجاهلي الذي انتهى ببداية عهده صلى الله عليه وسلم.

وهكذا استمرت هذه الكلمة طوال فترة العهد الإسلامي الأول والأموي على المعنى أو الدلالة نفسها، ولكنها ترسخت وتأصلت في الحياة الثقافية العربية، ثم ظهر إلى جانبها كلمة (المؤدب) التي كانت تطلق على من يعلم أبناء الخلفاء والأمراء (ما تطمح إليه نفوس آبائهم فيهم من معرفة الثقافة العربية).

وبحكم انتشار العلم وبروز دور المؤدب (المعلم) بدأت الكلمة تستقل ويتضح معناها في هذا الاتجاه، حيث كان المؤدب يعلم تلاميذه القراءة والكتابة أولاً ثم يعطيهم قسطاً من التهذيب والمعرفة وكانت وسيلته في التهذيب والمعرفة تقوم على الانتقاء والانتخاب من فنون القول الجيد المؤثر (الشعر والخطابة والقصص والحكمة والأمثال والوصايا..) بالإضافة إلى تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف والسير والأنساب والتاريخ وبذلك أصبحت الكلمة بحكم هذا الاتساع تقابل كلمة العلم.

وقد وردت أقوال عن الخلفاء والعلماء يوصون المؤدب ويدلونه على كيفية الاختيار لمادة التعليم والتهذيب والعمل كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الأشعري: (مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي..)

ولما جاء العصر العباسي وازداد سوق الثقافة العربية الإسلامية ارتفاعاً بدأت كلمة (الأدب) تظهر في خضم الازدهار الثقافي وفي تعابير الكتاب ومؤلفاتهم، فمنهم من استعملها للدلالة على معرفة أشعار العرب وأخبارهم ولغتهم، ومنهم من اتسع بها لتشمل كل المعارف التي ترقى بالإنسان فظهرت كتب مثل (الأدب الصغير) و(الأدب الكبير) لابن المقفع وكتاب (الأدب) لابن المعتز، و(البيان والتبيين) للجاحظ، و(العقد الفريد) لابن عبد ربه، حتى قال ابن خلدون: (الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف) () وكأنها أصبحت ترادف كلمة الثقافة بمعناها الموسوعي.

ثم أخذت هذه الكلمة تستقل تدريجياً في دلالتها عن معنى التهذيب، لتصبح علماً خاصاً جامعاً على فنون القول الجيد الراقي التي كانت معروفة عند العرب في الجاهلية كـ (الشعر والخطابة والقصص والأمثال والحكمة والوصايا والرسائل) وما أضاف لها العرب في العصر العباسي من فنون جديدة نحو (التوقيعات، والخاطرة، والمناظرة، وأدب الرحلات والمقامات والسيرة…) وغيرها.

واستمر هذا المصطلح في مسيرته حتى القرن التاسع عشر، ليدل على ما ينتجه العقل والشعور من خلال اللغة، ثم استقل في نهاية الأمر على معنى الأدب الخالص، بعد أن استقلت العلوم بدلالتها وعناوينها، ليكون مصطلحاً خاصاً على فنون الشعر والنثر، وقد أضاف لها العرب في القرن العشرين الفنون التالية: (فن الرواية، وفن المقالة، وفن المسرحية، والحديث الإذاعي، والندوة والحوار والمرافعات، وغيرها من الفنون…) وذلك بحكم انتشار الطباعة والصحافة والإذاعة، وإلى هذا المصطلح ينصرف الذهن في الدراسات الأدبية الحديثة.

ومن خلال استعراض مسيرة هذا المصطلح يمكننا أن نسجل الملاحظات التالية:

1 – أن العرب منذ الجاهلية كانت لهم مجموعة من الفنون القولية التي تعتمد الفصاحة والبيان الجميل، وهي ما نسميه في عصرنا بالأنواع الأدبية كـ (الشعر، والخطابة، والمثل، والحكمة، والوصايا، والقصص والرسائل..) ولكنهم لم يتوصلوا إلى اسم جامع يجمعها في مصطلح واحد، بل كان العرب يتعاملون مع هذه الفنون، كأنواع منفصلة عن بعضها.

2 – وفي العصر العباسي بدأ استعمال مصطلح (الأدب) ليدل على فنون الكلام الجيد المؤثر في العواطف من الشعر والنثر، وهي التي كان يختارها المؤدب في تهذيب تلاميذه، وأخيراً بدأ اللفظ يستقل عن معنى التهذيب ليصبح مصطلحاً جامعاً على فنون الأدب الخالص، وبخاصة في القرن التاسع عشر، بعد أن استقلت العلوم الاجتماعية ومالت إلى التخصص.

مع أن المعنى اللغوي القديم ما زال مستعملاً بمعنى التهذيب حتى أيامنا، ولا تزال بعض الجامعات تستعمل مصطلح (كلية الآداب) في تقسيماتها ليدل على المعنى الثقافي الموسوعي القديم.

3 – لقد اكتشف العرب المتعة الجاذبة في الفنون الأدبية فسموها (سحر البيان) فجعلوا من الشعر والخطابة والمثل والقصة مادة سمرهم في مجالسهم ونواديهم، وعندما أوغلوا في تلك المتعة، اكتشفوا فوائد كثيرة تختلط بتلك الفنون الممتعة، وبذلك تعرفوا على الفائدة العظيمة للأدب والوظيفة التي يمكن أن يؤديها، فجعلوا منه مادة التهذيب والتعليم التي يستعملها المؤدب (المعلم) في تعليم أبناء الخلفاء والأمراء وأبناء الأمة عندما اتسعت قاعدة التعليم، وبذلك اكتشفوا تأثير هذا السحر فوظفوه في حياتهم قبل أن يتمكنوا من تفسيره، ولم يكن عندهم من علم حول طبيعة الأدب إلا القليل وذلك من خلال تذوقهم الفطري لسحر الأدب وجمال المعاني، وما كانوا يتداولونه في أسواقهم الأدبية من تذوق فطري انطباعي سريع حول ما يلقى من الشعر أو النثر.

4 – ثم تطور الأمر حتى ظهر النقد المنهجي العميق في العصر العباسي، وعندها تعمقت صلاتهم بطبيعة الأدب، وتأصلت عند النقاد، ومما ساعد في ظهور هذه المرحلة الجادة في تفهم طبيعة الأدب، ما رافق تلك الفترة من نشأة وتطور لعلوم اللغة العربية وما كان لها من فضل كبير في تعميق تلك الجهود. وهو أمر يلفت نظرنا إلى أهمية التمييز بين (وظيفة الأدب) و (طبيعة الأدب) وما بينهما من علاقة متينة، تقوم على التأثر والتأثير، وأثر هذه العلاقة وفائدتها لنا في التنظير للأدب الإسلامي، لأنه يكشف لنا قيمة طبيعة الأدب وأهميتها في تحقيق وظيفته، وذلك أن الأدب الراقي في تحقيق طبيعته هو الأدب الناجح في أداء الوظيفة والتأثير.

5 – كما دلتنا سيرة المصطلح على الدور التربوي العظيم للأدب في تاريخ الأمة، وأهمية الأدب تربوياً في تشكيل ذوق الأمة وبناء الوعي العام عند أجيالها، وهو أمر يمكن أن يتوسع فيه علماء التربية والثقافة في دراساتهم التربوية والثقافية المعاصرة.

6 – إن كشف تاريخ هذا المصطلح فيه فائدة عظيمة، تخدم دراساتنا في تعريف (الأدب الإسلامي) وتجذير مفاهيمه، لأن الأدب الإسلامي في تجربته النموذجية الأولى (أدب الصحابة) الكرام رضي الله عنهم، نشأ في أحضان الأدب العربي، وتغذى بخبراته الفنية الغنية، ثم بدأ تأثير الإسلام في الأدب العربي، فأخذ يصبغه بصبغته الفنية والشرعية، عندما أسلم العربي، وأخضع نفسه للإسلام في عقيدته وشريعته ونظامه للحياة، واستمر تأثير النموذج الإسلامي الأول في الأدب العربي عبر عصوره الممتدة، وقد تعتوره حالات قوة أو ضعف وانفلات بحسب قرب المسلم من إسلامه أو ابتعاده عنه.

وهنا يجب تذكير دعاة الأدب الإسلامي بتاريخ نشأة الأدب الإسلامي في تجربته الأولى في عهد الصحابة وارتباطها بالأدب العربي، ليس في الأدب الإسلامي المكتوب باللغة العربية فحسب، بل بالأدب الإسلامي المكتوب بلغات الشعوب الإسلامية الأخرى، لأن ذلك يساعد الأدب الإسلامي المعاصر في إيضاح أمور كثيرة يحتاج إليها أثناء معركته في الحياة الأدبية والثقافية والنقدية.