من مواصفات المبدع التفرد، ومن خصائصه الحركة الدائبة، وعدم قبوله للسكون، فلا يمكن أن يتوقف المبدع عن العطاء، فهو يعيش في عالم لا يفهمه، ولكنه لا يستسلم له بسهولة، ومن هنا تجد المبدعين في عالم السياسة قلّة (مهاتير وأردوغان والشيخ تميم) نموذجا، وفى عالم الفكر والفقه قلّة (القرضاوي والغزالي) نموذجا .

 

يبنى أردوغان دولة حديثة، ويمنح حياته لفكرته، ويواجه المحيط بشجاعة وفقه، وينطلق من عقيدته، ويفهم واقعه، ولكنه يبدع كيف يجمع بين الديمقراطية والإسلام، ويبدع كيف يكون الحاكم مسلما ويستفيد من الفراغات العلمانية ويملأ بحكمة وحنكة؟ فلا هو يكفّر العلمانيين كما يفعل مراهقو الصحوة، ولا هو يمنح المتشددين وقتا للفراغ التنظيري، وكذلك يفعل رئيس وزراء ماليزيا الدكتور مهاتير الذي نجح في صناعة دولة مسلمة، وليست إسلامية في زمن العولمة، واستطاع أن يصنع بديلا عن الدولة العلمانية بدون ضجيج، ونجح في صناعة دولة مسلمة بعيدا عن تجربة داعش، فهكذا يكون المبدع ولو كان في آخر العمر، فهو يبدع ويضيف.

 

نجح الحكام في قطر أن يجعلوا الدولة الصغيرة في حجمها الجغرافي، وفي سكانها محورية من حيث العطاء، ومهمة من حيث التفاعل، وخطيرة من حيث التأثير، فقد نجح الأمير المؤسس لقطر الحديث في صناعة دولة قطر الحديثة، وأوجد بيئة قابلة للتمدن، وجعلها قبلة المفكرين والمثقفين والخبراء، ويكفيه أنه أوجد قناة (الجزيرة)، والتي صارت، وما زالت أهم قناة في العالم العربي، وأفضل قناة في العالم العربي مع ما لديها من ملاحظات، فهي قبلة (الأخبار)، وواصل الأمير تميم الابن الرسالة، ولكنه أبدع في مواجهة الحصار، ونجح في إخراج القطريين من فاجعة الحصار، وأصبح ذلك الأمر من التاريخ، فلا الحصار نجح في كسر إرادة القطريين، ولا هو جعل قطر دولة تابعة لمحور الشر بلا شروط، وهذا نجاح، بل هو إبداع.

 

نجح الشيخ القرضاوي في صناعة فقه إسلامي وسطي، وأوجد مصطلحات غير موجودة في أدبيات الفقه الإسلامي قديما، وتعامل مع النصوص بفقه تجديدي، ومع الواقع بفهم معاصر، ونجح في كتابة ما سمي بفقه الوسطية، ونشر كتبا تحمل لفظ (بين) بكثرة، وهذا كله جرى يوم أن كان الفقه البدوي النجدي يلعب دوره في الساحة، فكان التكفير عنوانا لكتبهم، وكانت الأحاديث الدينية جلّها حول(نواقض الإسلام)، ولكن الشيخ القرضاوي كتب عن (معالم الوسطية في الإسلام)، وأصدر كتبه المهمة في التعامل مع النصوص، (كيف نتعامل مع السنة النبوية؟)، وردّ على المتشككين علميا، ودافع عن ثبوت السنة، ومرجعيتها، ولكنه أيضا وضع معالم ثمانية في التعامل مع السنة مستعينا بأقوال جهابذة العلماء، وبعقله الفقهي، وفهمه الثاقب، ومن أعظم تألقه الفقهي (فقه الأولويات)، و( فقه الموازنة)، وفقه التجديد، وغيرها من المصطلحات التي نجح فيها الشيخ إنشاء، وصناعة، أو تعديلا وتنقيحا، أو إضافة وإبداعا، وهو الذي فرّق بين الاجتهاد الإنشائي، والانتقائي، ودعا إلى صناعة فقه الائتلاف بدل الحديث عن فكر الاختلاف، وبهذا صار القرضاوي ظاهرة إبداعية في عالم الفقه والفكر والصحوة، واستحق أن يكون مفكر الفقهاء، وفقيه المفكرين.

 

أما الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، كان آية في الإبداع، فكان مبدعا في اللغة، ومجدّدا في صناعة الخطاب، ورائدا في مواجهة الانحرافات الفكرية والسياسية، ومقداما في النضال الفكري والسياسي، ومتجددا مع الزمن والمكان، فهو في كل عام إنسان جديد، وعند كل محطة يطرح كتابا جديدا، لديه مخزون غير عادي من المصطلحات والأفكار، فكان كمالك بن نبي في صناعة الأفكار، ولكن بلغة فقهية، ومن روائعه (الغزو الثقافي يمتد في فراغنا)، وهذا يشبه إلى حد بعيد النظرية التي صاغها المفكر الجزائري مالك بن نبي (القابلية للاستعمار)، وهو الكاتب بوعي هذه الكلمة العظيمة (إن الفراعنة تألّهوا، لأنهم وجدوا جماهير تخدمهم بلا وعي) فكم تحمل هذه الكلمة من معاني قديرة تحتاج إليها الشعوب الثائرة في زمن اللاوعي، وقرأت له كذلك مرة في إحدى مقالاته النوعية حديثا عن الأوبة الفكرية فكتب مقالا عن (المراجعة لا الرجوع)، فكان الرجل مبدعا، ولَم يكن شخصا يتوقف عن العطاء بسبب الصيحات التي تنطلق من البيئة البدوية في فقهها، وفهمها، ومضى في طريقه يبدع بلا توقف، وعلّمنا حكمة كلها إبداع (من لا امتياز له بعمل جليل، لم ينفعه أسلافه ولو كانوا ملوك الآخرة)، وهذا يتسق مع قوله تعالى (تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون).

 

نحن اليوم نحتاج إلى فريقين من المبدعين في منطقتنا، مفكرون وفقهاء يبدعون ولا يكررون أنفسهم ، يصنعون فقها متجددا، ولا ينقلون عن الماضين فقها، قد لا يكون حلا لزماننا، ومستجيبا لقضايانا، ومتفاهما لتحدياتنا ، فهذا النوع من الفقه يتطلب قراءة مكثفة، ونوعية، وشجاعة أدبية غير عادية، والفريق الثاني يتمثل في السياسيين الذين يجب عليهم أن يتحرروا من التبعية السياسية، ومن الغفلة الفكرية، فلا نجاح لأمتنا بدون تحريك للهمم، وتحريك الهمم يتطلب حرية واستقلالا.

من د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي