د. صلاح الصاوي

بمناسبة الحديث حول مسألة التطعيم ضد كورونا وحكمه، هناك لغط وجدل وأقاويل كثيرة، منها ما يحرم هذا التطعيم ويمنع من تداوله، ومن حججهم في ذلك:

 

احتواء التطعيم على بروتين أو كولسترول مستخرج من الخنزير

 

فيه مستخرجات من خلايا من أجنة مجهضة

 

ليس بآمن بعد وقد يكون سببا للتعرض للتهلكة في المستقبل او أمراض أخرى

 

كون التطعيم محاولة لإعادة هيكلة جينات وتركيب الجنس البشري ليتم السيطرة عليه

 

كون التطعيم ما هو إلا محاولة من جهات مشبوهة وتجارية تريد مع معلومات عن البشر وتعقبهم ولربما احتوى التطعيم على اجهزة متابعة في غاية الدقة ونحو ذلك

 

فما القول الفصل؟ في ذلك أفتونا مأجورين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فلتحرير القول في هذه المسألة نسوق المعالم الآتية:

 

إن قضية التطعيمات (اللقاحات) vaccinations في وباء كوفيد-19 CVOVID-19

قضية ذات شأن كبير تتجاوز تعلقها بالفرد منه إلى المجتمع ومؤسساته الرسمية ممثلة بالجهات الطبية المختصة.

 

فكما هو معلوم أن الوباء حتى تاريخ صدور هذا البيان قد أصاب ما يزيد على سبعين مليوناٌ في العالم، وحصد حياة ما يزيد على المليون ونصف المليون.

ولا سبيل لوقف هذه الجائحة العالمية إلا إذا تمت إصابة ما يقدر ب 70% من الناس بحيث يتم الوصول إلى المناعة المجتمعية community immunity

أو ما يسمى بمناعة القطيع herd immunity.

هذه المناعة المجتمعية يمكن الوصول إليها بطريقين:

 

1- السماح لانتشار العدوى بين الناس دون الحد منها.

 

2- إعطاء التطعيمات (اللقاحات).

الطريق الأول

بيد أن الطريق الأول وهو السماح لانتشار العدوى لا يتوافق مع الشريعة، لما يترتب عليه من تعريض الضعفاء لخطر الموت،

مما فيه مناقضة صريحة لمقصود الشارع في حفظ النفس البشرية التي يستوي الجميع فيها،

ولما فيه من ضرر يتجاوز الصحة إلى أمور الاقتصاد والعبادة وسائر مناحي الحياة- (لا ضرر ولا ضرار).

الطريق الثاني

أما الطريق الثاني لتحقيق المناعة بإعطاء التعليمات فهو ما يستقيم شرعاً وعقلاً.  وبين يدي ذلك، فلا بد من إثبات النقاط التالية:

 

أولا: إن مشروعية التداوي دفعا للمرض أو توقيا منه موضع إجماع أهل العلم،

فسواء أكان المرض واقعا أو متوقعا فلا نزاع في مشروعية التداوي منه،

وإنما وقع النزاع في وجوبه أو عدم وجوبه،

وقد فصلت المجامع الفقهية القول في مواضع الوجوب والاستحباب،

ومن مواضع الوجوب التي قررتها المجامع الفقهية إذا كان المرض يؤدي إلى الإضرار بالغير،

وهو ما ينطبق على هذا وباء كوفيد-19 حيث يكون احتمال العدوى شديداً.

 

ثانيا: أن مبنى الأمور في باب التداوي وغيره على غلبة الظنون، فلا سبيل إلى اليقين في أكثر الأحكام،

ولا حرج على الأطباء والباحثين في بناء أحكامهم على الظن الغالب.

قال المرداوي «حيث قبلنا قول الطبيب، فإنه يكفي فيه غلبة الظن على الصحيح المذهب».

والواجب في الجملة عند تزاحم المصالح والمفاسد هو السعي لتحقيق خير الخيرين ودفع شر الشرين،

فإذا وجدت بعض الآثار الجانبية المحدودة لدواء من الأدوية فإنها تغتفر،

إذا كانت مصالحه غالبة، وانغمر أثره الجانبي المحدود فيما كاثره من المصالح الظاهرة الغالبة.

 

ثالثا: عملية الموافقة والإقرار على التطعيمات ليست قراراً متروكاً لفرد أو شركة ربحية،

إنما يكون من قبل هيئة الغذاء والدواء food and drug administration (FDA)

التي تتبع معايير دقيقة وصارمة وفق قاعدة تغليب المصالح والمنافع على الأخطار والمفاسد، مما ينسجم مع القواعد الشرعية.

لقاح بفايزر

ومن نافلة القول أن نذكر أن لقاح بفايزر Pfizer  الذي تم الموافقة عليه من قبل الـ FDA قد درس فيما يزيد على أربعين ألفاً

(تلقى ما يزيد على عشرين ألفا منهم اللقاح الفعلي)،

ولم يصب أي منهم بأعراض خطيرة،

وهو ما يفوق الأعداد المعتمدة علميا للتجارب في الدراسات السابقة، والزمن العلمي المقرر لها.

 

وإن كان هذا العدد أو الزمن لا يكفيان للتيقن من عدم حصول مضاعفات نادرة،

ولكن هذا يمكن توقعه مع أي تطعيم أو دواء آخر،

فنبقى على ترقب ومتابعة للمستجدات،

ولكن هذا لا يمنع الانتفاع بها في الوقت الراهن بعد  أن تمت الموافقة عليه بأغلبية ساحقة لرجحان المصلحة المترتبة عليه على المفسدة.

 

ويبدو أن الأمر يسير بنفس الاتجاه بالنسبة للقاح موديرنا Moderna

الذي اشتملت دراسته ما يزيد على ثلاثين ألفاً تلقى أكثر من نصفهم اللقاح الفعلي (يتوقع الموافقة عليه في ديسمبر 17 / 2020).

 

رابعا: أما بالنسبة لإشكالات التصنيع، والتي تتمثل كما يقول المانعون في كون بعض التطعيمات تستزرع في السقط من الأجنة وخلايا الخنازير،

 

فيناقش بما يلي:

 

أن لقاح Pfizer وModern وهما اللذان سيكونان متوفرين في القريب العاجل، فلا يعتمدان على هذه التقنية، ولا يوجد فيهما ما يستدعي الشك بالحِلّ فيهما.

 

أما لقاح AstraZeneca فهو الذي يستخدم تقنية الزرع في الخلايا. وهو غير متوفر للاستعمال حتى الآن.

 

ومع ذلك فبالنسبة لاستزراع الفيروسات في السقط فإنه قد تمهد شرعا أنه يحل الانتفاع بأعضاء الآدمي بضوابطه كما نصت على ذلك قرارات المجامع الفقهية،

مع التأكيد على حرمة تعمد الإسقاط لهذا الغرض، وضرورة أخذ الإذن من الأولياء لاستعمال خلايا السقط.

 

استزراع بعض التطعيمات في خلايا الخنزير

 

أما بالنسبة لاستزراع بعض التطعيمات في خلايا الخنزير وتنجسها فالتطعيم ليس فيه شيء من هذه الخلايا،

بل تستعمل فقط لتتكاثر فيها الفيروسات المجهرية أو أحماضها الأمينية، فهي “نجاسة” بالمجاورة، ومثل ذلك من اليسير المعفو عنه،

لا سيما إذا كنا أمام ضرورات التداوي وحاجاته العامة الماسة في وباء كارثي اجتاح العالم أجمع كوباء كورونا.

أما ما ذكر من مخاطر التطعيم،

فمنه ما لا يعدو أن يكون مجرد شائعات لا تثبت على قدم، ومنه ما هو محتمل، ولكنه لا ينهض دليلا على حجب المشروعية عن هذا الدواء لغلبة منافعه،

التي أثبتتها الدراسات العلمية، وأقل ما يقال في الوضع الراهن بحق الأفراد إنه مشروع (إباحة أو استحبابا)،

وفي حق الهيئات الصحية أنه واجب من حيث ضرورة تأمينه لتعلق مصالح عموم الناس بذلك.

 

ونبقى على ترقب ومتابعة للمستجدات، ولكل حادث حديث. والله تعالى أعلى وأعلم

من د. صلاح الصاوي

الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة ورئيس الجامعة الإسلامية بأمريكا «مشكاة»