نحن مسكونون بعوالم “اللغة الوهميّة” هروباً من قسوة هزائم الواقع الموضوعيّ، وهذا من آثار بقايا الإيمان بـ”سحريّة اللغة”؛ أي كونها صانعة للواقع الموضوعيّ لا كاشفة له.
لذلك يقتصر جهدنا على إسقاط آمالنا ورغباتنا على الواقع باستعمال “اللغة”، و”اللغة فقط”، فعوض تعبير اللغة عن الواقع كما ينبغي أن نراه، بل عوض التعبير عن الواقع كما نراه – فالتعبير عن الواقع كما هو يكاد يكون متعسّراً- صارت اللغة تعبّر عن الواقع كما “نريد أن نراه”!
ولو اكتفينا بهذا دوراً شعريّاً للغة، وأثراً نفسيّاً لها لهان الأمر، ولكنّنا جعلنا هذا الدّور وسيلتنا الوحيدة لـ”معرفة الواقع”، فتوهّمنا أنّنا بقدرتنا على “وصف الواقع” بما نحبّ ونريد من “الكلام” أنّ “الواقع” يصير كذلك.
وعليه صارت طريقتنا: ليست “هزيمة” تلك التي نصفها بـ”الانتصار”، وليس “جبناً” ذلك الذي يُمكن أن نصفه بـ”الحكمة”…
ولكن – وغالباً ما يكون مقصد الكلام ما بعد “لكن”- “الإيهام اللغويّ”، أو “الإيهام باللغة” ليس فعلاً سلبيّاً دوماً؛ والعيار هو أن تكون اللغة حتى في إيهاماتها “دليلاً” لفهم الواقع الموجود وتغييره إلى الواقع المنشود، لا “بديلاً” عن فهم الواقع وتغييره، فمفهوم “العالم الجديد” لوصف “واقع القارتين “الأمريكيتين” من منظور “المكتشفين الأوروبيّين”، عبّر عن “الواقع” كما يحبّ “الأوروبيّون” لا كما هو في الحقيقة؛ فالقارتان قديمتان وجوداً وسكّاناً قدم الأرض نفسها، ولكنّ هذا المفهوم تجاوز طور “الإيهام اللغويّ” إلى فهم الواقع وتغييره من وجهة نظر “الأوروبيّين” ومصالحهم، لذلك يُمكن للغة المشفوعة بالفعل والعمل أن تغيّر “الواقع” لصالح من يملك قوّة “الهيمنة اللغويّة” و”الهيمنة الواقعيّة”.
كما يمكن لـ”الإيهام اللغويّ” أن يحفظ للشعوب “المهزومة آنيّاً” قدراً من الحصانة النّفسيّة والوجدانيّة والحضاريّة حين تُبقي اللغة ولو إيهاماً “أملاً” في النّفوس، و”مثالاً” في العقول يمكن تحقيقه، لذلك ستكون كلّ “مقاومة للمحتلّ” نصراً ولو كان في مقام اللغة فقط، لأنّها تذكّر بالوصف الحقيقيّ للواقع: أرضنا المحتلّة، وبالأمل الممكن تحقيقه بالعمل الواجب: تحرير أرضنا بالمقاومة.
- د. نارت قاخون يكتب: تفلسفوا.. يرحمكم الله - يوليو 1, 2022
- د. نارت قاخون يكتب: سحر كرة القدم - يونيو 15, 2022
- د. نارت قاخون يكتب: الدّولة الغريقة - يونيو 11, 2022