رانيا مصطفى

الإسلام البروتستانتي.. اشتقت كلمة (protestant) من كلمة (protest) وتعني المحتجين، والبروتستانتية هي حركة دينية ثورية أطلقها أحد القساوسة الألمان (مارتن لوثر)، فأعلن انفصاله عن الكنيسة الكاثوليكية الأوروبية في روما في القرن السادس عشر، والتي استدعته واستمعت إليه وأدانته واتهمته بالإلحاد وحرمت مؤلفاته. قدم لوثر 95 احتجاجًا على الكنيسة ونقض مسلماتها في كتبه؛ التف الناس حوله، ولهذا أصدر البابا قرارًا بحرمانه في عام 1520م. عقدت الكنيسة في روما مجمعًا قضى بمحاكمة لوثر أمام محكمة التفتيش لكنه هرب.

 

استُبعد اليهود في نهاية القرن الخامس عشر بصورة تكاد تكون تامة من غرب أوروبا باستثناء أجزاء من ألمانيا وإيطاليا إلى الشرق الأوسط وهولندا وإنجلترا، واضطرت جموع كثيرة منهم إلى التحول إلى المسيحية في الظاهر، وهم مقيمون سرًّا على ديانتهم اليهودية، ومصممون على نقلها لأولادهم جيلًا بعد جيل.

 

تحسنت أوضاع اليهود نسبيًّا في ألمانيا وكانوا داعمين لثورة لوثر الذي ألف كتابًا بعنوان «عيسى ولد يهوديًا»، دعا فيه إلى تفضيل الطقوس العبرية في العبادة على تعقيدات الطقوس الكاثوليكية، كما دعا إلى دراسة العبرية على أنها «كلام الله في الناس» ثم ترجم التوراة إلى اللغة الألمانية؛ اتهمته الكنيسة الكاثوليكية أنه من اليهود الذين تنصروا من أجل هدم الكنيسة هذا وقد أثبتت الأيام تحالف مارتن لوثر مع اليهود؛ حيث نشرت مجلة (كاثوليك جازيت) في عام 1936م وثيقة يهودية مهمة تبين دور اليهود في نشأة المذهب البروتستانتي، ومما جاء في تلك الوثيقة «… والآن دعونا نوضح لكم كيف مضينا في سبيل الإسراع بقصم الكنيسة الكاثوليكية، فاستطعنا التسرب إلى دخائلها الخصوصية، وأغوينا البعض من رعيتها و قساوستها ليكونوا رواداً في حركتنا،ويعملون من أجلنا، أذعن مارتن لوثر لإيحاءات أصدقائه اليهود، ونجح برنامجه ضد الكنيسة الكاثوليكية، بإدارة المسئولين اليهود وتمويلهم. ونحن نشكر البروتستانت على إخلاصهم لرغباتنا، برغم أنهم يخلصون الإيمان لدينهم، لكنهم لا يعون مدى إخلاصهم لنا».

 

قوي مركز لوثر وتوطد نفوذه، فطالب الدولة بأن تفرض ما يبدو لها رأيًا سليمًا، وأوجب على الناس أن يطيعوا أميرهم في أمور دينهم ودنياهم، وصرح بأن غاية الدولة حماية الدين من المارقين، وأخضع الناس لنوع من الوساطة مع الله عبر كنيسته «اللوثرية» التي صار لها قوانينها الخاصة ومعتقداتها وأساقفتها.

 

نتج من جهود لوثر ورواد حركة الإصلاح الكبار، تفكيك السلطة البابوية، وبذر حبوب الدولة القومية وصولاً إلى العلمانية السياسية، ما أدى لتمزيق الوحدة الشكلية التي احتفظت بها المسيحية الكاثوليكية نحو ألف عام، بين القرنين الخامس والخامس عشر الميلاديين، وعاشت خلالها أوروبا ما اصطلح على تسميته بالعصور الوسطى المظلمة، في حالة من التجانس الثقافي العام كحضارة مسيحية تحت إمرة الإمبراطورية الرومانية، على أرضية بنية إقطاعية.

 

أفضى غياب الرئاسة العالمية- البابوية عن المذهب البروتستانتي، إلى تطابقه مع الشعور القومي، وإلى ميلاد نظريات العقد الاجتماعي التي سعت إلى إعادة تأسيس السلطة السياسية على قواعد أرضية لا تنبت من حق إلهي مقدس، بل من إرادة عامة لجماعة إنسانية.

 

مهدت الحركة التنويرية التي تميزت بالتركيز على المنهج العلمي وعلى التشكيك المتزايد بالعقائد الدينية،لظهور العلمانية التي تعرفها دائرة المعارف البريطانية كحركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشئون الدنيوية بدلا من الاهتمام بالشئون الأخروية.

 

يقول البروتوكول الصهيوني الرابع (يتحتم علينا أن ننتزع فكرة الله ذاتها من عقول المسيحيين، وأن نضع مكانها عمليات حسابية وضرورية مادية. ثم لكي نحول عقول المسيحيين عن سياستنا سيكون حتمـا علينا أن نبقيهم منهمكين في الصناعة والتجارة، وهكذا ستنصرف كل الأمم إلى مصالحها، ولن تفطن في هذا الصراع العالمي إلى عدوها المشترك، وستكون نتيجة هذا أن خيرات الأرض المستخلصة ستعبر إلى خزائننا). بالرغم من أنه لا يمكن اعتبار البروتوكولات مرجعًا فإن كل ما جاء فيها تم تنفيذه بالفعل على أرض الواقع.

 

تسللت البروتستانتية في بداية القرن السابع عشر، ومن بعدها العلمانية في أواخر القرن التاسع عشرإلى الشعب اليهودي، حيث نشأت بداخل اليهودية أيدلوجية رافضة للتقاليد تحولت لعلمانية لا تمت للعقيدة بصلة، بل إنها ترفض طقوس السلطة الحاخامية. أسس المرتبطون بالحركات الاشتراكية اليهودية الجديدة إلى أن القيود اليهودية هي مؤامرة تاريخية لقمع طبقاتهم العاملة؛ ومن تلك الحركات انتشرت الفكرة بين المسيحيين ثم المسلمين كل حسب عقيدته. لم تشكل العلمانية خطرا على اليهود، فكل وجوهها وجدت ما يستوعبها داخل المجتمع اليهودي.

 

وهكذا جرى تفريغ محتوى مسيحية ويهودية أوروبا، وجعلهما أكثر تماهيًا واتحادًا من خلال المذهب البروتستانتي، ومن ثم تجنيدهما لتفريغ إسلام الشرق من نواته الصلبة بداية من القرن ال18 ؛لكنهما واجهتا مشكلتين:

الأولى، أن الدولة العثمانية في هذا الوقت كانت ما تزال محتفظة بعوامل قوتها، وكانت شرائع الإسلام في أوج حضورها،

والثانية أن الإسلام ليس نظامًا ثيوقراطيًّا يقوم على أكتاف رجال كهنوت، وعلماؤه ليسوا وسطاء بين العبد وربه، وليسوا أوصياء من الله على خلقه، فالحاكم المسلم يخطئ ويصيب، ويحاسب ويعزل؛ ونظام الحكم الإسلامي لم يكن في أسوأ أحواله مثل عصور أوروبا المظلمة؛ فكان الحل هو الصبر على هدم الخلافة العثمانية، مظلة المسلمين الجامعة، وبذر بذور نظام إسلامي ثيوقراطي ينتهي إلى بروتستانتية تفضي لعلمانية، ومنها إلى عملية تفتيت سهلة تقوم على أساس بث روح القوميات التي ستكون بابا لإخضاع هذا المجتمع.