فاتن فاروق عبد المنعم

الحملة الفرنسية (13).. تجلي الحقيقة: رغم الإجراءات الاحترازية التي اتخذها كليبر لإعادة ترتيب أوضاع الجيش المادية والصحية والتسليح وإعادة تقسيم مصر إلى ثمان دوائر يتولى قيادة كل دائرة قائد فرنسي ونائب مسيحي فإن الأوضاع تسوء رغما عنه، ويوما بعد يوم يتأكد له ضرورة مغادرة مصر ويزداد سخطه على المغامر نابليون فهو من قامر بهذه الحملة، بالإضافة لخوفه على بلده والتهديدات التي تحيط بها سواء من المتربصين بها من الخارج أو القلاقل بالداخل التي من الممكن أن تقود إلى حرب أهلية، وهذا الذي يكنه كليبر في نفسه يتوازى مع رغبة الحكومة الفرنسية في عودة الحملة إلى بلادهم فأصبح التفكير في كيفية العودة بشكل مشرف للجيش بما يحفظ ماء وجهه، وبدأ كليبر في التفكير في عقد صلح مع الباب العالي بما يؤمن جيشه لحين الرحيل عن مصر والذي هو لا محالة حادث في ظل تداعي هذا الجيش على كل المستويات، بل وحالة الإفلاس تخيم عليه بما يعني استحالة استمرارهم في مصر في ظل تهديدهم بهجوم محتمل من الانجليز والروس والباب العالي بتركيا معا والمماليك لم يقضى عليهم تماما.

 

صرح كليبر لمستشاريه بالاهتمام بما هو أبقى بعد رحيلهم وهو الجانب العلمي!!

 

(لنبقى مفتونين بعلمهم فيتأصل داخلنا أنهم حملة علمية، لنصم آذننا عن الحقيقة، يد السامري التي لا تكف عن العمل،لم يعد العجل بقرة من الذهب وإنما طور أدواته طبقا لمقتضى الحال، حول العلم إلى عجل من عجوله، فإن رفضناها لأنهم احتلال مقنع نتهم بأننا جهلاء ضد العلم والأخذ به، وإن قبلناها على أنها حملة علمية نكون بذلك قد أشربنا في قلوبنا عجل السامري، ولا ينجو من هذا الاختيار الضيق إلا ذو قلب سليم)

 

فأطلق يد العلماء والمؤرخين والفنانين ليكتبوا كتاب وصف مصر، وأعطاهم كل الصلاحيات التي تزلل لهم إتمام هذا العمل.

 

كتاب وصف مصر:

 

جزء من مقدمة فورييه أحد علماء الاحتلال الفرنسي وكان مديرا للمجمع العلمي، وعلينا أن نتلمس فيها أهدافهم الحقيقية ونظرتهم الاستعلائية والعنصرية تجاهنا بما يقدح في كل ادعاء نقيض ذلك، يتصورون أننا سنصدقه اللهم المهزومين والمنافقين من الطابور الخامس ممن يطمعون في حنطتهم وعسلهم.

 

“انتشر علماء الاحتلال الفرنسي في أنحاء مصر لدراستها من كافة الأوجه ولكن الذي كتب هذا الكتاب هو الأب لوما سكرييه عام 1735 ونشر في 23 جزء من عام 1809 إلى 1828والتركيز على أهمية العلم بغض النظر عن القوة العسكرية، وإضفاء شكل معين على هوية مصر وتعريف محدد مع الاعتراف الكامل بالموقع الذي يشغله في الذاكرة وأهميته الاستراتيجية الامبريالية (الاستعمارية) ودوره الطبيعي باعتباره ملحقا أو تابعا لأوروبا وتشريف كل معرفة تكتسب أثناء الاحتلال الاستعماري بتسميتها “مساهمة في العلم الحديث” في حين أنه لم يستشر أحد أهل البلاد ولم يعاملهم أحد إلا باعتبارهم ذرائع لكتابة نص لا فائدة لهم فيه وأن يشعر الأوروبي أنه يتحكم وقتما يشاء تقريبا في تاريخ الشرق وزمنه وجغرافيته وإنشاء مجالات تخصص جديدة وتأسيس مباحث علمية جديدة وتقسيم وتوزيع وتخطيط وتصنيف وتبويب وتسجيل كل ما تشاهده العين وما يخفى عنها وتحويل كل تفصيل يدركه المرء إلى تعميم وكل تعميم إلى قانون ثابت عن طبيعة الشرق أو مزاجه أو عقليته أو عاداته ونمطه.

 

وفي موضع آخر يقول:

 

وهكذا فإن وصف مصر يحل محل التاريخ المصري أو الشرقي باعتباره تاريخا يتمتع بتماسكه وهويته ومعناه،بل إن التاريخ المسجل في هذا الكتاب يغتصب مكان التاريخ المسجل ويحدد نسبه تحديدا صريحا ومباشرا باعتباره تاريخ العالم، وهذا تلطف في التعبير أو كناية عن التاريخ الأوروبي وإنقاذ حادثة من النسيان يعادل في ذهن المستشرق تحويل الشرق إلى مسرحا للصور التي يرى أنها تمثل الشرق.

 

وفي موضع آخر يقول:

 

اعتبارا من هذه اللحظة سوف يظهر الشرق الإسلامي باعتباره مقولة تدل على سلطان المستشرقين لا على أفراد الشعوب الإسلامية باعتبارهم بشرا ولا على تاريخهم باعتباره تاريخ”

 

تعقيب:

 

” ومما سبق يتضح لنا الأهداف الحقيقية لحملة نابليون كاملة وهو استعماري صليبي استشراقي بحت، وإلا ما معنى أن يكتبه واحد من رجال الكنيسة وليس واحد من علماء نابليون، بمعنى أنه خدمة للإستعمار في كل زمان أيا كانت الدولة المستعمرة لأن الأهداف ثابتة لا تتغير منذ الحروب الصليبية.

 

الملمح الثاني هو كلمته عن الهوية”إضفاء شكل محدد عن هوية مصر التي يرغبونها هم وليست التي نرغبها نحن، في كبر وغطرسة لا مثيل لها ولا لدى الإنسان الأول في عصر الصيد”

 

الملمح الثالث هو كوننا “ملحقا أو تابعا لأوروبا وليس ندا لها، كما أن أي تقدم علمي يحدث هو مساهمة في العلم الحديث ليس لنا فيه أي دور، ونحن لا نستشار في أي شيء، نحن فقط ذرائع لكتابة نص (كومبارس، لم يمنحونا دور البطولة) كتاب وصف مصر على حد تعبير فورييه لا فائدة لنا فيه، ولابد أن يشعر الأوروبي أنه الحاكم المتحكم في الشرق تاريخا وجغرافيا وزمنا، نحن في أعينهم لسنا بشرا ولا تاريخنا يعتبر تاريخا، وصورتنا هي التي يرسمها ويحددها المستشرق ولسنا نحن من نعبر عن أنفسنا، ما كل هذا الاستعلاء والعنصرية؟!

 

أما التركيز على العلم دون الالتفات للقوة العسكرية لهو حديث إفك،حتى لا نهتم بها رغم أن التقدم العلمي لا يتحقق إلا في دولة مستقرة تأخذ بكل أسباب القوة لا في دولة محتلة”

 

بعد أن أصبح الجلاء عن مصر قرارا نهائيا، فإن إجراءات التفاوض نالها الكثير من السجال والنقاش عبر الرسائل المتبادلة بين الصدر الأعظم ( الخليفة العثماني) وكليبر فانتهى إلى كون الجيش الفرنسي ليس لديه ولا حتى السفن التي يغادر عليها وأنه حصل على طمأنة من تركيا بأنه سيغادر على سفن الصدر الأعظم مع التأكيد أنهم في أمان من الانجليز والروس على هذه السفن وكانت نهاية الرسالة من الصدر الأعظم لكليبر تقول:

 

“إن هدف هذه الرسالة هو إلزامكم بعمل كل ما يعتمد عليكم من أجل إنقاذ أرواح هؤلاء الفرنسيين التعساء الذين خدعهم الجنرال بونا بارت خداعا بالغ الفظاظة”

 

ولم ينسى سميث الضابط البحري الانجليزي (قائد الأسطول الإنجليزي بالبحر المتوسط) استغلال حالة الهزيمة التي منيت بها فرنسا في مصر والشام فقام بتذكير كليبر بأنه لا يجب التركيز على الصلح مع الصدر الأعظم بقدر ما يجب التركيز على الصلح مع انجلترا التي تسيطر على البحر المتوسط مذكرا إياه أنه من أجبر نابليون على مغادرة إيطاليا يجر أذيال الخيبة، فرد عليه كليبر:

 

“بأن المرء رائع في أي مكان يخدم فيه بلاده، والحال أن من المؤكد أن مصر، البلد الأكثر خصوبة على الأرض، ليست منفى أكثر من البحار الهائجة التي اضطررتم إلى سكناها”

 

ويجري الاتفاق على إجراء المفاوضات مع الباب العالي في سفينة سميث بدمياط وبذلك يكون التفاوض تحت عين سيمث، فأي هزيمة تلك التي منيت بها فرنسا ولكنها أشعلت الأمل في نفوس الانجليز باقتفاء أثر فرنسا في مصر وهو ما حدث بعد ذلك ليس بكثير لتصبح مصر مجددا تحت الاحتلال الانجليزي الصليبي.

 

(ويوجز كرومر احتلالهم لمصر بقوله “جئنا إلى مصر لنقضي على القرآن والأزهر والكعبة”)

 

كانت معنويات عساكر نابليون في الحضيض بعد أن داهمهم الجيش العثماني بالعريش وأرغمهم على الاستسلام ولما علم عساكر نابليون في الإسكندرية بما حدث بالعريش هاجوا واعترضوا فلابد من الرحيل وإلا استسلموا للإنجليز بالبحر المتوسط ولكن من حسن حظ فرنسا أنه لم يكن الانجليز قبالة ميناء الإسكندرية في ذلك الوقت، فقط كان مينو هو من يرسل إلى حكومة بلاده بضرورة الحفاظ على مصر كمستعمرة فرنسية في الوقت الذي لا يحظى بالتفات يذكر في صفوف الجيش.

 

وللحديث بقية إن شاء الله

فاتن فاروق عبد المنعم

من فاتن فاروق عبد المنعم

كاتبة روائية وعضو اتحاد كتاب مصر