كتب- أبوبكر أبوالمجد
في قانون الدول الكبرى، القوة هي التي تحكم من غير شك، وهذا هو الحال في قضية (لوكيربي) على ما يبدو، فبالقانون ليس من حق الولايات المتحدة إعادة فتح التحقيق في هذه القضية؛ لكن بقوة الولايات المتحدة يستحيل على ليبيا الوقوف أمام الرغبة الأمريكية.

البداية

في يوم 21 ديسمبر من عام 1988 انفجرت طائرة بوينغ 747 تابعة لخطوط (بان أمريكان العالمية) فوق مدينة لوكيربي باسكتلندا غربي إنجلترا، وأسفر عن مقتل 270 شخصًا، من بينهم 190 أمريكيًا، وهو ما عرف لاحقًا باسم (قضية لوكيربي).

ولا تزال حادثة تفجير الطائرة التي انطلقت من لندن إلى نيويورك، تمثّل أكثر الحوادث دموية في بريطانيا، وثاني أعنف الهجمات في تاريخ الولايات المتحدة.
لكن بعد تحقيقات لم تعلن، وتكهنات من وسائل الإعلام، تم تدوير المسئولية بين دول مختلفة، يجمع بينها رابط العداء لأمريكا، وحركات تحرر تضعها الولايات المتحدة ضمن المنظمات الإرهابية، وقامت عائلات ضحايا لوكيربي بتأسيس مجموعة ضغط فعالة تنادي بالقبض على مرتكبي الجريمة وبالعقوبات وبأي شيء من شأنه تطبيق عدالة ما.

وبعد سنوات من التحقيق تنقلت الاتهامات شرقًا وغربًا وفق مصالح الطرف القوي الولايات المتحدة، وقد ألقيت المسئولية أولًا على منظمة فلسطينية، ثم على سوريا، وبعدها على إيران، وأخيرًا توصلت الاستنتاجات والتحقيقات إلى ليبيا، وبالتزامن صدر في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في 13 نوفمبر 1991 أمرًا بالقبض على مواطنين ليبيين اشتبه في مسؤليتهما عن تفجير الطائرة كونهما يعملان بمكتب شركة الخطوط الجوية الليبية بمطار لوقا بمالطا وقيل أن بمعرفتهما تم شحن حقيبة تحتوي على متفجرات.

وعلى الفور رفضت ليبيا الطلب وبدأ القضاء الليبي التحقيق في الاتهام، وأوقف المواطنان الليبيان، وطلب من الدولتين تقديم ما لديهما من أدلة ضدّهما، وأصرت الدولتان على طلبهما ورفضت ليبيا الاستجابة، لما رأته حسب ما أعلنته من اتهامات باطلة تثيرها الدولتان دون توفر أية أدلة لديهما.

عودة للواجهة

وبعد كل هذه السنوات، ومساع واتفاقية سبقت لتسوية هذه القضية وتمت بالفعل، تعيد الولايات المتحدة القضية للواجهة مرة أخرى، وسط تساؤل مشروع عن جواز هذا التصرف قانونيًا، وغير مشروع عقلًا، حيث أنه لا قانون أعلى من قانون القوة الذي يحكم العالم.

وقبل أيام وجّهت الولايات المتحدة لائحة اتهامات ضدّ الليبي أبو عقيلة محمد مسعود، المشتبه بصنعه القنبلة التي أدّت إلى تفجير طائرة “بان أم الرحلة رقم 103″، فوق بلدة لوكيربي الاسكتلندية عام 1988.

وزير العدل الأمريكي

قال المدعي العام الأمريكي، (ويليام بار) “أعلى مسؤول قانوني في إدارة دونالد ترامب”، بأن الأحداث اكتملت مع الكشف عن الاتهامات الموجهة إلى أبو عقيلة، وإنه “مسرور بإعلان توجيه الولايات المتحدة اتهامات جنائية ضد المتآمر الثالث، أبو عقيلة محمد مسعود، لدوره في التفجير”.
وأضاف: “إذا لم يقع أي خطأ، مهما طال الزمن أو المسافة لن تتوقف الولايات المتحدة أو شركاؤها الاسكتلنديين عن السعي إلى تحقيق العدالة في هذه القضية”.

وقال المدعي العام إن التطور الذي أدى إلى إصدار الاتهامات، جاء بعدما علمت السلطات أن المشتبه به محتجز في ليبيا. وأشار إلى أن السلطات الليبية سلّمت نسخة من المقابلة مع مسعود إلى المسؤولين الأمريكيين.

وأعلن أن أبو عقيلة مشتبه به في صنع القنبلة والتعاون مع اثنين آخرين. وأضاف قائلاً إن القذافي شخصيًا شكره على “الهجوم الناجح ضد الولايات المتحدة”.

وقال “أخيراً سيخضع هذا الرجل المسؤول عن مقتل أمريكيين وكثيرين غيرهم، للمحاكمة على جرائمه”، وأبدى تفاؤله بشأن تسليمه من قبل السلطات الليبية.

جدير بالذكر أن (ويليام بار)، كان يشغل منصب المدعي العام عام 1991 أيضًا حين صدرت الاتهامات للمرة الأولى في القضية ضد ليبيين مشتبه بهم!
وتزعم الولايات المتحدة أن مسعود كان يعمل سابقًا في جهاز المخابرات الليبية، وأنه قاد الهجوم على الطائرة، بأمر من الزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي.

ويسعى ممثلو الادعاء إلى طلب تسليم أبو عقيلة مسعود ليحاكم في الولايات المتحدة.
وفي سياق متصل، قال رئيس شرطة اسكتلندا (لاين ليفينغستون)، إن الاتهامات تمثّل “تطورًا مهمًّا”، وإنهم سيتابعون العمل عن كثب مع الولايات المتحدة وسلطات دولية أخرى. وأضاف أنه “من غير المناسب التعليق أكثر من ذلك” الآن.

من هو أبوعقيلة؟

يزعم أنه كان من كبار صانعي المتفجرات العاملين لدى القذافي. واقتفى الصحفي كين دورشتاين، الذي قتل شقيقه على متن طائرة “بان أم”، أثر أبو عقيلة خلال تصوير فيلم وثائقي تلفزيوني عام 2015.

وقال دورشتاين لبي بي سي إن مسعود كان “شخصية غامضة”، ذكر اسمه في التحقيق الأولي على أنه “خبير تقني”.
وذكرت في الفيلم الوثائقي مزاعم عن دور لأبو عقيلة في تفجير ملهى ليلي في برلين الغربية، أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص.
وورد أنه سجن في ليبيا خلال انتفاضة عام 2011 بسبب دوره إلى جانب القذافي.

لائحة الاتهام

بناء على سجلات سفر وشهادات، يزعم المحققون الأمريكيون أن مسعود سافر من طرابلس في ليبيا إلى مالطا في ديسمبر 1988؛ لكنه قابل قبل سفره مسؤولاً في المخابرات الليبية.

بعد ستة أيام، التحق به معاونان إلى مالطا، وبحسب المزاعم، عمل الثلاثة على صنع جهاز التفجير.
ويذكر في الشكوى أنهم استخدموا ملابس اشتروها من متجر في مالطا لإخفاء الشريط الذي يحمل المتفجرة.
ويزعم التحقيق أن مسعود جهّز العبوة للتفجير في 21 ديسمبر.

ووضعت الحقيبة التي تحمل القنبلة على إحدى الرحلات الفرعية من مالطا إلى فرانكفورت، ثم إلى مطار هيثرو في لندن حيث شحنت على متن طائرة “بان أم”.

وورد أن أبو عقيلة عاد في اليوم ذاته إلى طرابلس. وزُعم أنه التقى بعد أيام مع معاون له، مسؤولًا كبيرًا في المخابرات أثنى على عملهم.

صحفي ليبي

أشار الصحفي الليبي الطبرقي، عبد العزيز الرواف، وفق وثائق، نشرتها صحيفة المرصد الليبية، تعود لفترة تسوية قضية لوكيربي، إن عودة القضية للواجهة تزامن مع حكم قضائي بريطاني، يرفع التجميد عن مليارات ليبية في المملكة المتحدة مجمدة بحسابات المؤسسة الليبية للاستثمارات، مما يراه البعض ربط بين هذا الحكم والاتهام الأمريكي، وربما يعرض تلك الأموال للحجز، على اعتبار أن الحادثة، وقعت على أرض بريطانية.

وأضاف، الرواف، أنه بالعودة إلى نص اتفاق تسوية المطالبات الليبي الأمريكي، المبرم والموقع بين الجانبين، في طرابلس يوم 14 أغسطس 2008، فقد تم التأكيد على إغلاق كل هذه القضايا، حتى لو كانت قابلة للاستئناف أمام المحاكم.

وأوضح أنه بالعودة إلى تفاصيل ما بعد حادثة لوكيربي، فإن عائلات أمريكية رفعت دعاوى قضائية في نيويورك سنة 2006، وتحصلت على حكم بالتعويض قدره 6 مليارات دولار، غير أن الاتفاق النهائي بين الدولتين، ألزم ليبيا على دفع تعويض قدره 1.5 مليار دولار، ونص أيضًا أن تدفع أمريكا في المقابل تعويضًا لليبيا وقدره 300 مليون دولار.

ولفت، أن الاتفاقية حملت بين ليبيا وأمريكا والمكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية، توقيع كل من (ديفيد ويلش)، وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط، وأحمد الفيتوري، وكيل شؤون الأمريكيتين، في وزارة الخارجية الليبية آنذاك، وجاء في الاتفاقية على أن يؤسس صندوق يودع فيه الطرفين، أو من ينوب عنهما الأموال التي يطلبها كل منهما من الآخر كتعويض.

وأردف الصحفي الليبي، أنه جاء في بنود المادة “3” أن يقبل الطرفين تسوية مادية مقابل تلك القضايا، ولا يجوز بعدها فتح أي مطالبات جديدة، عن أي أفعال ارتكبت من الطرفين بحق الآخر قبل تاريخ 30 يونيو 2006، وهذا يعني أن أمريكا لا يحق لها الآن المطالبة، أو حجز أي أموال أو أصول ليبية، بعد هذه التسوية الحاسمة، كما لا يحق لليبيا أي مطالبة، في مقابل أن تدفع الولايات المتحدة تعويضات ضحايا الغارة الأمريكية على ليبيا، والتي حدثت يوم 15 أبريل 1986.

وأوضح عبد العزيز الرواف، أن ليبيا طالبت في المادة “ب / 3” من الاتفاق، وفي الملحق التابع له على التزام الولايات المتحدة بتوفير الحصانة السيادية والدبلوماسية لليبيا، وبأن لا يستلم أهالي الضحايا أي تعويضات من الصندوق المشترك المخصص للغرض، إلا بعد توفيرها، وهو ما تم بالفعل عبر مراسيم رئاسية وتشريعية أمريكية.

وتنفيذا لطلب ليبيا أصدر الكونغرس الأمريكي القانون رقم 110/301 بشأن اعتماد هذه الإتفاقية، ونصت المادة 4 من هذا القانون، على أن تكون الممتلكات الليبية، والأفراد الليبيين المعنيين، في مأمن من الحجز أو إجراء قضائي آخر، وبالمناسبة فإن النائب بالكونغرس “جو بايدن” وقتها، الرئيس المنتخب حاليًا، هو من تقدم بذلك التشريع.

كما وقع الرئيس الأمريكي بوش الابن في 31 أكتوبر 2008 مرسومًا رئاسيًا، حمل رقم 13477 نص على التزام الولايات المتحدة بتسوية النقاط المطلوبة منها، والتي ارتكبها مواطنيها، على أن تلتزم ليبيا بنفس المبدأ، مع الإنهاء التام لأي مطالبات مستقبلية، وإقفال أي قضايا مفتوحة، من قبل عائلات الضحايا سواء أمام المحاكم المحلية والأجنبية، وذلك بعد قيام بعض العائلات، برفع قضايا ضد ليبيا بشكل منفرد، وحصولها على أحكام بتعويضات مالية ضخمة، إلا أنها أصبحت هي والعدم سواء بعد هذا الاتفاق.

وأكد الرواف، أنه بذلك يكون كل ما يقال عن حق وقدرة الولايات المتحدة على حجز الأموال الليبية، أو المطالبة بحجز، أو معاقبة الدولة الليبية وأصولها، هو أمر غير واقعي، ولم يعد له أساس قانوني وفقًا للاتفاقية سالفة الذكر الموقعة بين البلدين، وللقانون الصادر بشأن تحصينها من الكونغرس، و للمرسوم الرئاسي الصادر والموقع من الرئيس (جورج دبليو بوش). فهل يكون للقانون السيادة هذه المرة أم تنتصر القوة كما جرت العادة في مثل هذه المواجهات غير المتكافئة؟!

من أبوبكر أبوالمجد

صحفي مصري، متخصص في الشئون الآسيوية