يثير العجب أن الأسباب التي اندلعت من أجلها ثورة 25 يناير هي الفقر، والمرض، والفساد، وقتل خالد سعيد، هذه هي الأسباب التي حركت جحافل الشعب في كل المحافظات غضبًا! وأقارن اليوم ما يفعله السفاح بمصر من قتل خارج إطار القانون، وتعذيب للرجال، وتنكيل بالنساء، وفساد وإفساد لكل أشكال الحياة، وإتاوات حكومية تكاد تضع عدادًا على الأنوف لتحتسب ضريبة على الأنفاس، وقضاء مسيس، وأمراض بالجملة، وتعليم يلفظ أنفاسه الأخيرة، ومعارك مصطنعة في سيناء وتقتيل لأهلها، وتنازل عن تيران وصنافير، وضياع لحقول الغاز، ونهب لأراضي الدولة، وبيع لآثارها، وتأجير أهم ممر ملاحي مصري بالعالم، وتنازل عن حقها في موردها الوحيد للمياه (نهر النيل)؛ أليس كل ذلك كاف لأن يصنع بركانًا، لا مجرد ثورة! لم صبت الشجاعة صبًا في قلب الشعب وقتها، وتحركت نخوته ومروءته وكرامته، ولا يحرك اليوم ساكنًا؟!
بدأت ملحمة الثورة واجتمع الثوار في الميدان على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم الفكرية، اجتمعوا لتحقيق طلبات ثلاث (عيش، حرية، عدالة اجتماعية)، لم تكن فكرة إسقاط النظام واردة في الأذهان في هذه اللحظة، أو على الأقل لم يعلنها المعتصمون صراحة، ولكن انتشار كاميرات وكالات الأنباء العالمية ورصدها لدبة النملة في الميدان أعلنت بما لا يدع مجالًا للشك أن الأمر يخرج عن كونه مجرد مظاهرة تحمل مطالب عادية. شكلت هذه الكاميرات عائقًا أمام الشرطة في وضح النهار، فانتظرت انسدال ظلام الليل حتى تبدأ في فض الاعتصام.
شاهد المصريون لأول مرة معارك شوارع حقيقية، شاهدوا دما يراق مباشرة على الهواء، وكان يراد لهم ذلك. نقلت لهم الأحداث بتفاصيلها طوال الليل، لعب الإعلام العالمي على أوتار المشاعر في البرامج الحوارية المتواصلة؛ ما جعل الأمر معدًا لنزول أعداد كبيرة في اليوم التالي تضامنًا مع الشباب لترتفع الدعوات من مجرد احتجاجات إلى دعوات لإسقاط للنظام.
بدت تروس ساعات العالم في تلك اللحظة وكأنها توقفت عن العمل واحتل كل رئيس دولة كرسيه الوثير حول حلبة الصراع في مصر ليراقب اقتتالًا وشيكًا قد يفضي لحرب أهلية محببة ومرغوبة، بل مخطط لها، ولكن ذلك لم يحدث. فقد كانت السلمية التي هي مبدأ شرعي تحول دون ذلك، انتهجها الإخوان وكل من له خلفية إسلامية، وكانت هي ما ضبط إيقاع ميادين مصر كلها خلال الثورة وما بعدها.
مر اليوم الأول والثاني وهبط في الثالث براشوت البرادعي على ساحة الثورة، ثم ظهر الجيش في اليوم الرابع (جمعة الغضب) ينزل مدرعاته على استحياء دون تأثير قوي يذكر، حين أمر مبارك بفرض حظر التجوال. هل يعقل أن يؤخر الرئيس نزول الجيش لضبط الأمن إلى ما بعد سقوط أكثر من 800 شهيد – بإذن الله – ومئات الجرحى؟! وبعد إضرام النار في مقر الحزب الوطني الرئيس وتحطيم محتويات كل المقار على مستوى الجمهورية؟ وبعد حرق السيارات الخاصة بالدفاع المدني وتهديد المتحف المصري وسرقة بعض محتوياته؟ وانتشار حالة من الشغب غير المسبوق وتحطيم واجهات المحال التجارية وتكرار عمليات النهب؟! يبدو أن العسكر كان يراقب نضوج الطبخة، ويبدو أن مبارك كان يحارب وحده بعد تخلي المجلس العسكري معولًا على جهاز الشرطة التي استخدمت بدورها فيالق من البلطجية من الباطن والذي انسحب سريعًا وفق أوامر لا أظنها صدرت من مبارك، بل من جيش أبدى تراخيًا واضحًا يشبه كثيرًا تراخيه أثناء عام حكم مرسي وعند الانقلاب عليه.
يقول الدكتور صفوت حجازي أمين عام مجلس أمناء ثورة يناير في أحد البرامج الحوارية أن الجيش نزل بالفعل حوالي ثلاث مرات خلال الثورة في أوقات قلت فيها أعداد المعتصمين وقام بفضه لمدة لا تتعدى الخمس دقائق في كل مرة، ثم انسحب (انتهى). أي أنه كان يستطيع، ولكنه لم يرغب.
في اليوم الخامس للثورة وبعد أن باعك كل أصدقائك يا ريتشارد، اضطر مبارك إلى التنازل فأقال الحكومة وعين رئيس وزراء ونائبًا له، وتعهد بمزيد من التعديلات الاقتصادية ومنح للحريات، ولكن كل ذلك لم يكن ليطفئ نارًا يسعرها من معه ومن ضده.
في اليوم السادس، تواصلت الضغوط الخارجية وانهيارات البورصة وازدادت الفوضى وارتفعت أعداد القتلى والجرحى، إلى أن دعت المعارضة إلى إضراب عام كان بمثابة طعنة قاتلة للاقتصاد وهذا هو ما شكل الضربة القاضية للنظام، قررت إدارة البورصة تجميد التداول وتبعها البنك المركزي فجمد العمل في جميع المصارف، وفي هذا اليوم تمت عمليات اقتحام للسجون المصرية.
أمران كالإضراب العام واقتحام السجون لا تستطيع جهة أن تصدره أو أن تنفذه، إلا أن تكون قوية بما يكفي لتنتشر بطول مصر وعرضها في ست ساعات بحسب تصريحات رئيس مخابراتها حين صار رئيسًا، إنه الطرف الثالث الخفي آنذاك، الذي نفذ مخطط الانقلاب على مبارك على مهل وبدقة متناهية.
يتبع…
- رانيا مصطفى تكتب: استمتع بوحدتك وبتميزك - مايو 23, 2023
- رانيا مصطفى تكتب: انتخابات رئاسية في مصر؟ بطلوا ده واسمعوا ده! - أبريل 10, 2023
- رانيا مصطفى تكتب: هل الزلزال عقاب؟ - مارس 23, 2023