لا أعجب كثيرا من تفاؤل الشباب الذي يعيش التعاسة المادية واليأس الروحي تفاؤله بما يجري حاليا بمناسبة الانتخابات في بلد سُدت فيه كل الأبواب أمامه بما في ذلك باب الارتماءين في طريق الانتحار الفردي بالدافع الدنيوي أو بالدافع الأخروي. لم يبق له إلا الأحلام المثالية التي هي بدورها محكومة بنفس الارتماءين في الانتحار الجماعي بما يقدم من البعض على أنه استئناف للثورة بجذوة 2011.

 

لكنه في الحقيقة استئناف لمحاولات إفشال السعي لتجنب الحرب الأهلية الذي جربته تونس بالاستفادة من خبرة نخب ذات دراية بإمكانات تونس والحذر السياسي الضروري لعدم تحميلها ما لا طاقة لها به. فحافظت على ما اعتبر استثناء في الربيع العربي. وقد كنت دائما ممن يريدون قلب صفحة الماضي بأسرع ما يمكن فاقترحت تقديم المصالحة على المحاسبة لئلا يخوف المجرمون الكبار المجرمين الصغار فيكثر أعداء الثورة.

 

وذلك للانطلاق نحو تمتين تصالحي لشروط أهم حصيلة للثورة وهي أن الشعب صار صاحب الأمر والنهي في ما يتعلق بحكمه وبحرياته الأساسية طريقا إلى تحقيق شروطها الموضوعية التي هي شروط الكرامة أعني التنمية والتوزيع العادل للثروة.

 

لا ننسى أن تونس هي الوحيدة التي لم تسقط في الحرب الأهلية من بين البلاد العربية الأربعة التي شاركتها فيها وأنها واصلت التقدم في مشروع بناء الديمقراطية خطوات لا بأس بها. وينبغي العمل بحكمة وصبر وتجنب الهزات في إقليم ذي أرض شديدة الارتجاج السياسي وفي لحظة تاريخية حرجة تتعلق بالموقف المعادي لمحاولات المسلمين الخروج من الاستثناء من ثقافة العصر.

 

بدأت الحروب الأهلية تعم أقطار الربيع: بدأت بسوريا لحقت بها ليبيا فمصر فاليمن.

 

لكن دعاة الحرب الأهلية لم يتخلوا عن المشروع. وقد كانوا قاب قوسين أو أدنى من إشعالها فحتى عدد الضحايا الذين كانوا مستعدين للتضحية بهم قدروه (20 ألف) ثمنا معقولا حسب شهادة صاحب نسمة لإسقاط حكومة اختارها الشعب (ما يسمى باعتصام الأرز بالفواكه الجافة).

 

لكن ما يسمى بالحوار الوطني والتوافق رغم كونهما غير متكافئين وغير متوازنين مكنا من تأجيل الحسم الدموي مدة خمس سنوات أخرى بعد حكم الترويكا. ولم يدم الصمود إذ آل إلى تفتيت جبهة الإنقاذ السبسية بدءا بخروج من كانوا من القيادات التي تدعو إلى الحرب الأهلية وتؤيد السيسي وحفتر فضلا عن مؤدي ما يجري في سوريا مع ادعاء الانتساب إلى الثورة.

 

ويمكن القول إن الانتخابات وما يزعم من تحرك الشباب بقيادة سعيد أعاد الوضعية بالتدريج إلى ما يشبه ما كانت عليه خلال السنة الأولى من “الثورة” (2011). وهو عودة الطرفين الأقصيين المسيطرين على الشارع خلال الأيام الأولى من الثورة أعني أقصى اليسار وأقصى اليمين. وهما يريدان معركة تستهدف الدولة هذه المرة وليس النظام فحسب.

 

لكن المحللين -ممن يزعمون الإعلان عن النوايا كافيا في السياسة- يحاولون إخفاء هذه الحقيقة ويريدون التغطية عليها بأسماء جديدة لعل رمزها اجتماع التطرفين بشكل جديد يذكر بحدي طرفي الثورة:

 

  • رمز الثائر النظيف وشبه المقدس.

 

  • والمثار عليه الوسخ وشبه المدنس.

 

والمعلوم أن التقابل إذا بلغ هذا الحد صار عين التناقض واصلا للحرب حتما حتى بمنطق الصراع الجدلي المثالي بلغة هيجل أو المادي بلغة ماركس:

 

  1. أحدهما يمثله سعيد ومن معه.

 

  1. والثاني القروي ومن معه.

 

وإذا كان القروي ليس ظاهرة قابلة للتخفي لأنها ذات صلة بينة مع النظام المافياوي الذي أينع في عهد ابن علي وحافظ على وحدته تحت سلطة قائده ابن علي فإن سعيد ظاهرة قابلة للتخفي لأنها تبدو ممثلة للثورة على هذه الظاهرة ومواصلة لما مثلته فزة 17 ديسمبر 2010.

 

والأمر الملغز هو هذا التخفي الذي يدل على غفلة المحللين أو على سوء النية ممن يريدونها أن “تخمج” ويطلبون “خلاءها وجلاها”. فما تمثله ليس ظاهرة 17 ديسمبر بل هي تعبر عما أظهرته هزيمتان حدثتا للمعارضات التي سبقت هذا التاريخ:

 

  1. ردة فعل اليسار على هزيمته في انتخابات 2011 ومدارها الحرب على الإسلام السياسي.

 

  1. رد فعل جبهة الإنقاذ على سياسة التوافق بعد انتخابات 2014 وتفتتها ومدارها الإسلام السياسي.

 

وإذن فالمعركة المقبلة التي قد يكون مآلها السقوط المتأخر في ما سقطت فيه بلاد الربيع العربي الأربعة الأخرى لأن ما أراه يحدث هو بنحو ما هزيمة الصفين اللذين مثلا المعركتين السابقتين الناتجتين على ردي الفعل هذين. وقد تعينتا في ظهور صفين آخرين أحدهما يمثل النزعة المافياوية العارية والثانية تدعي تمثيل نقيضها العاري بمن ظنوا أن المعركتين السابقتين قد همشتاهم. وهؤلاء المهمشون هم أولئك الذين جمعوا بين ممثلي التيار الذي يسمونه تيار الشباب المثالي المكتفي مثلا بالكلام على طهارة سعيد مقابل ونجاسة القروي وثقافة سعيد مقابل جهل القروي.

 

لكن وراء هذه المقابلة الانتقال من “الشعب يريد إسقاط النظام” إلى “الشعب يريد إسقاط الدولة”. وهي دعوة يلتقي فيها منطق الكتاب الأخضر ومنطق السوفيت حتى وإن تراجع المتكلمون عليهما بإستراتيجية انتخابية واضحة لتجنب التخويف من الأمر. لكن ما يعدون به من تغيير غير ممكن من دون ثورة شارعية ضد حصيلة الانتخابات الحالية إذا نجح أي من المترشحين:

 

  • إذا نجح سعيد فستكون ثورة شارعية لفرض هذا التغيير بأدوات الدولة من أجل استبدالها باللجان الشعبية والصوفيات.

 

  • وإذا نجح القروي فستكون ثورة شارعية أقوى من التي عانت منها الترويكا لإسقاط الدولة بالعنف الثوري وتحقيق نفس التغيير.

 

فيكون الجاري حاليا هو استئناف ما بدأ قبل فشل القصبة الثانية وشروع السبسي في محاولة الاستجابة إلى تغيير النظام مع المحافظة على الدولة وواصلته الترويكا ثم التوافق إلى الانقلاب الذي نظمه الشاهد وقيادة النهضة وما تلاه من مناورات كانت كلها محاولة لبناء الشاهد قاعدة بديلة من النداء الذي تفتت. وكان ذلك من أكبر أخطاء النهضة التي لها تكتيك قصير النظر لأنها بدأت تفتيت ذاتها وقد تلحق بالنداء إذا لم تتدارك هذا الخطأ.

 

ذلك أن كل المافيات ستجتمع ضدها وليس ضد سعيد وجماعته بل هي ستجد فيهم فرصة للضربة القاضية. فما بقي من الدولة ما يزال بيدهم ويمكنهم باسم المحافظة على الدولة اللجوء للحل الأخير الحاسم أي البيان عدد 1. وسيكون ذلك بطلب شعبي كبير لسبب بسيط هو أن ما حدث في مغامرة التعاضد في تونس سيكون لعب أطفال بالمقارنة مع ما سيؤدي إليه الصراع بين الحمقين:

 

  • حمق المافية العارية

 

  • وحمق المثالية العارية.

 

فعندما تفلس الدولة فمن سيفلس ليس المافية ولا من يتبعها بل الشعب ومعه ستموت كل مثالية وما كان ممكنا للثورة الفرنسية والسوفيتية والإيرانية من استعمال العنف الثوري لم يعد ممكنا لعلتين:

 

  1. أولا ليس للشعب التونسي شروط الصمود أكثر من شهر أو شهرين من دون الأجور التي تدفعها الدولة. ولن يكون لها ما يكفي حتى للسير العادي للإدارة لأن المافيات ستهرب كل ما تملك. وسيتوقف كل شيء.

 

  1. ثانيا لأن الجماعة التي تدعي القدرة على تحقيق ما تعد به من إصلاح ليس لها القدرة على فرضه لا بالسياسة اللطيفة ولا بالسياسة العنيفة. فالأولى تحتاج للمال والثانية تحتاج إلى الأجهزة. وهم لا يملكون لا هذه ولا ذلك.

 

آمل أن يكون كلامي مجرد توجس. لكني أكاد أجزم بأن ما حدث في التعاضد من إفلاس جعل الفلاح يبيع النعجة بدينار وهكتار الأرض بمائة دينار سيتكرر ما هو أسوأ منه وسينتفض الشعب فتصبح المافية بهذه الخدعة ممثلة لشرعية الدولة التي سيكون أول قراراتها البيان عدد 1 الذي ينادي به مثقفو المافية وسيلحق بهم مثقفو المثالية الذين يعتبرون من يفضل الوقاية على العلاج متواطئا مع المافية.

 

ذلك ان من يحلل الوضع في تونس وكأنها جزيرة لا علاقة لها بغيرها ولا بالتاريخ السياسي لا يمكن أن يكونوا بحق مثاليين بالمعنى المعرفي بل هم مثاليون بالمعنى العامي للكلمة أي لا يميزون بين ما يترتب على طبائع الأشياء وأحوالهم النفسية ليظهروا بمظهر الأطهار وهم في الغالب من أكثر الناس وسخا عندما يصبحون في مواجهة الوقائع التي تترتب على إستراتيجية “دعها حتى تقع”. فإذا وقعت تجدهم أول الفارين وتاركين البلاء لرأس الهم “دادة عيشة”.

 

فالشعب المسكين هو الذي سيكون الضحية كما نرى ذلك في ليبيا وفي مصر وفي سوريا وفي اليمن. فكل المزايدين على سياسة الإصلاح والمطالبين بما لا تقدر عليه تونس سيوصلونها إلى العنف الثوري أي الفوضى الخلاقة التي هي “الزبالة” التي يعيش فيها ذباب المليشيات الباطنية وبها احتل العراق وسوريا ولبنان واليمن ويحاولونها في ليبيا وفي تونس. وفي ذلك تتحد أنظمة الثورة المضادة العربية ونظام الملالي لأنهم لا يريدون نجاح الديمقراطية التي تسترجع كرامة الإنسان وحريته بتطور سلمي وهادئ يعتمد الإصلاح لا العنف الثوري.

من د. أبو يعرب المرزوقي

فيلسوف عربي تونسي