في الساعة الثالثة ظهر أحد أيام شهر ديسمبر عام ١٩٥٤م، طرق شاب رثّ الثياب طليق اللحية باب منزل الشيخ العلامة حسنين مخلوف (١٨٩٠–١٩٩٠م)، الكائن في شارع نجيب باشا بكوبري القبة محافظة القاهرة..

 

وحين فتح الخادم الباب، طلب الشاب مقابلة الشيخ الجليل..

 

فعاد الخادم ليخبر الشيخ عن الطارق، فرد قائلا: أدخله وأطعمه لعله عابر سبيل، وبالفعل دخل الشاب إلى المنزل وأعدّ له الخادم طعام الغداء، فأكله بشهية وكأنه لم يأكل منذ مدة طويلة!.

 

وبعد الغداء أصرّ الشاب علي مقابلة الشيخ الذي اعتقده طالب صدقة لثيابه الممزقة وإعيائه البادي، ولكن الشاب عرّفه بنفسه قائلا: «أنا محمد الصوابي الديب»، خريج كلية الشريعة جامعة الأزهر وأحد متطوعي الإخوان المسلمين في حرب فلسطين ضد اليهود وفي القناة ضد الإنجليز»!..

 

ثم أضاف بصوت منخفض ولكنه قوي: « أنا في محنة وأحتاج إلى مساعدة فضيلتكم، فأنا مطلوب القبض عليّ، وقد مكثت أكثر من شهر هاربًا متخفيًا، في المقابر نهارًا، ثم أخرج في الليل باحثًا عن الطعام!.ولقد كرهت الحياة بين الأموات وأريد أن أعيش بين الأحياء فهل تساعدني؟»!..[١]

 

فأصاب الشيخ حسنين مخلوف الذهول الممزوج بالخوف الشديد، حيث كانت هذه الأيام ذروة محنة جماعة الإخوان المسلمين وكان مجرد ذكرهم ومساعدتهم يعرض الإنسان إلي الاعتقال والسجن والتعذيب!..

 

وبرغم المكانة الكبيرة التي كان يتمتع بها الشيخ حيث كان مفتيًا للديار المصرية ورئيسا للجنة الفتوى بالأزهر الشريف، إلا أن هذا لم يقلل خوفه، حيث شهد منذ بضعة أشهر السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة، ووزير المعارف الأسبق وأكبر شخصية قانونية عرفتها مصر والعالم العربي مُلْقَىً في المستشفي  غارقًا في دمائه جرّاء العدوان عليه في ٢٩ مارس ١٩٥٤م، من الغوغاء والدهماء الذين دفعهم جمال عبد الناصر لمهاجمة مجلس الدولة في تظاهرة كبيرة هاتفين بحياة الجيش وعبد الناصر، و #سقوط_الدستور ومعه الحرية والديمقراطية!..

 

وجدير بالذكر هنا لفهم خلفيات الأحداث، معرفة أن جماعة الإخوان المسلمين كانت فاعلًا أساسيًا في ثورة يوليو ١٩٥٢م!.[٢] ..

 

وذلك من خلال ضباطها في الجيش والداخلية وتنظيماتها الشعبية، ولما كان مصطفي  النحاس باشا هو زعيم الأمة، لجأ الضباط الشباب إلى اللواء محمد نجيب ليترأس مجلس قيادة الثورة ويصبح واجهتها أمام الشعب المصري والعالم أجمع!.

 

وبالفعل استطاع الرجل أن يستل شعبية النحاس باشا من قلوب الناس ويأخد مكانه في مصر والسودان..

 

وعندما وقع الخلاف بين الضباط وانقسموا إلي فريقين؛ أحدهما بقيادة “محمد نجيب” ينادي بعودتهم لثكناتهم واستعادة الحياة الديمقراطية التي مارسها الشعب المصري قبل الثورة مع تلافي سلبياتها من سيطرة القصر الفاسد والأحزاب العميلة عليها والحكم بالدستور الجديدة الذي تضعه لجنة من أعظم العقول المصرية برئاسة «عبد الرّزاق السنهوري باشا»، في مقابل فريق آخر بقيادة «عبد الناصر» يريد البقاء في السلطة والانفراد بالحكم!..

 

فأصدر مجلس الثورة قرارًا في ١٢ يناير ١٩٥٤م، بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال مرشدها المستشار «حسن الهضيبي» ومجموعة من أعضائها البارزين، ثم في فبراير تم إعلان استقالة اللواء “محمد نجيب” رئيس الجمهورية من منصبه!.

 

فاجتاحت البلاد في مارس مظاهرات عارمة تقودها جماعة الإخوان تطالب ببقاء الرئيس «محمد نجيب»، وتجمعت في ميدان الجمهورية، وأطلق عليهم البوليس الرصاص لفضهم، فرفعوا قمصان المصابين غارقة بالدماء في مواجهة رصاص الداخلية التي عجزت في نهاية الأمر عن مواجهتهم!.

 

حتى اضطر الضباط بقيادة عبد الناصر إلى إصدار تعهد بالرجوع عن قراراتهم والعودة إلى ثكناتهم في الجيش قبل يوليو القادم!.

 

فاتجهت الجماهير إلى قصر عابدين ولم تستطع الشرطة تفريقها، حتى أن الرئيس «نجيب» نفسه لم يستطع ذلك ولم ينقذ عبد الناصر ورجاله من المتظاهرين الذين أرادوا الفتك بهم، سوى المستشار «عبد القادر عودة» القيادي الكبير بجماعة الإخوان المسلمين الذي وقف بجوار الرئيس محمد نجيب حيث أعلن الأخير أنه سينشئ الجمعية التأسيسية وسيعيد الحياة النيابية!..

 

وفي ٢٥ مارس تم الإفراج عن أعضاء الجماعة ومرشدها، وزارهم عبد الناصر بنفسه في منزل المرشد ليهنئهم بصفته وباِسم مجلس الثورة واصطحب معه صلاح سالم وقد نُشر ذلك في الصحف!.[٣]..

 

ومن هنا كانت خطة عبد الناصر وغدره التي بدأت بإنزال المظاهرات العمالية لتهاجم مجلس الدولة وتطالب ببقاء الضباط!.

 

ثم بدأ شن حملة دعائية ضد الإخوان المسلمين، مع محاولة ضرب الجماعة من داخلها بإثارة الفتن واستمالة بعض أعضائها مثل الشيخ حسن الباقوري لإحداث الانشقاق في صفوفها!.

 

إلى أن قام بوضع الرئيس «محمد نجيب» تحت الإقامة الجبرية دون إعلان ذلك على الشعب!.

 

ولم يتبق له سوى التخلص من جماعة الإخوان المسلمين للانفراد بالحكم دون أي منازع أو معارضة!.

 

والذي تمّ باتهام الجماعة تدبير محاولة اغتياله أثناء إلقاء خطابه في المنشية بتاريخ ٢٦ أكتوبر ١٩٥٤م، والطريف أنه بعد إطلاق الرصاص عليه، لم يغادر جمال عبد الناصر المكان، ولكن قام إلى الميكروفون وقال بصوت أجش في حماسة وارتجاف: «أيها الأحرار ليبق كل منكم في مكانه، دمي فداؤكم، حياتي فداؤكم»!.[٤]

 

وفي خلال ساعات معدودة قام رجال الشرطة العسكرية والمباحث السياسية (المباحث العامة فيما بعد) باعتقال عدة آلاف من المنتسبين لجماعة الإخوان المسلمين وبالتحديد في خمس ساعات، منذ إطلاق الرصاصات مساء الثلاثاء ٢٦ أكتوبر وقبل فجر اليوم التالي، بل أشار الصحفي والمراسل العسكري «صلاح قبضايا» إلى أن العملية بدأت بالفعل قبل إطلاق الرصاص على عبد الناصر في أسرع وأوسع عملية اعتقال عرفتها مصر في العصر الحديث!.[٥]

 

وقد تم التركيز أثناء إصدار قوائم المعتقلين على أعضاء التنظيم الخاص والفدائيين الذين شاركوا في الجهاد ضد الصـهاينة في حرب فلسطين وأيضا من قاموا بعمليات ضد قوات الاحتلال البريطاني في خط القناة، حيث كان عبد الناصر على علم كبير بهم لأنه اشترك في تدريب بعضهم مع كمال الدين حسين وخالد محيي الدين وحسين حمودة من الضباط الأحرار في عامي ١٩٤٦، ١٩٤٧م!.[٦].

 

وتم إعدام مجموعة منهم على رأسها قائدهم الشيخ المجاهد الشهيد محمد فرغلي رحمه الله في أوائل ديسمبر ١٩٥٦م، ومعه أيضا المستشار الشهيد عبد القادر عودة صاحب الشعبية الكبيرة الذي أنقذ قبلها ببضع شهور، جمال عبد الناصر ومن معه من الضباط من فتك الجماهير أثناء أزمة مارس!.

 

بذلك يتبين مدى الخوف والرعب الذي انتاب الشيخ الجليل حسنين مخلوف لخطورة الأمر في أجواء الفزع التي عمّت البلاد طوال تلك الفترة الكئيبة من تاريخ مصر!.

 

لهذا ذهب الشيخ للتشاور مع أهل بيته بخصوص هذا الشاب وتقرير مصيره، وفي شهامة نادرة ليست غريبة علي الشيخ الجليل وأولاده اتفقوا على إيواء محمد وتوفير عمل له، وليقين الشيخ بصدقه أسماه صادق أفندي وجعله سكرتيرا له، ووفر له غرفة في حديقة منزله بالرغم من علمه أن هناك فرمان جمهوري بمعاقبة كل من يتستر على أي من الإخوان المسلمين بالسجن والتنكيل!.

 

وبالفعل ظهر محمد الديب بشخصية جديدة لا يعلم حقيقتها إلا الشيخ مخلوف وابنه د. علي رئيس قسم أمراض النساء والولادة بطب عين شمس وابنته د. زينب وزوجة ابنه د.سعاد بنت المستشار حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان والمعتقل في سجون عبد الناصر!..

 

نجح صادق أفندي في وظيفة السكرتير بامتياز، وعاون الشيخ في ترتيب كتبه وأوراقه وصاحَبه في كل مكان فأصبح السكرتير الخاص لمفتي الديار المصرية!..

 

وفي نهاية صيف ١٩٥٥م بعد مرور ثمانية أشهر قضاها مُحمد مع الشيخ مخلوف، قرر أن يسافر خارج مصر من أجل القضاء علي حالة الترقب التي يعيش فيها والخوف من انكشاف أمره وحتى لا يتسبب في إيذاء الشيخ الذي أحسن إليه في محنته، وقد حاول الشيخ إقناعه بعدم السفر ولكنه أصر علي ذلك!..

 

هنا أرسل الشيخ مخلوف رسالة إلي الأستاذ «محمد سرور الصبان» مستشار الملك «سعود بن عبد العزيز» ليهيئ لمحمد عملا كريما بالسعودية، وبالفعل غادر محمد بيت الشيخ وانقطعت أخباره لمدة شهر كامل قضاها الشيخ العلامة مع أسرته في قلق بالغ على مُحمد  خاصة أن د. سعاد الهضيبي سمعت في إذاعة لندن أنه تم القبض علي اثنين من الإخوان المسلمين في باخرة بالسويس وهما في طريقهما إلى ميناء جدة في السعودية!.

 

وتحول القلق البالغ إلى رعب حقيقي عندما ذهبت د. سعاد الهضيبي لزيارة والدها في السجن الحربي، وعقب خروجها من مكتب مدير السجن شاهدت «محمد الصوابي» وهم يقومون بتصويره لعمل بطاقة اتهام له!.

 

فأسرعت مذعورة إلي منزلها لتخبر زوجها د. علي بما حدث، ووقع عليه الخبر كالصاعقة وحضّر حقيبته وذهب ليجلس مع والده الشيخ «مخلوف» حتى إذا جاء زبانية عبد الناصر للقبض عليه ذهب معه ليقوم على رعايته!..

 

ومرت الأيام طويلة كئيبة علي بيت الشيخ «حسنين مخلوف» وهم في انتظار مداهمة الشرطة العسكرية في أي لحظة، ولما طال الانتظار ذهبت د. سعاد إلي زيارة والدها وسألته عن «محمد الصوابي الديب» فهز والدها رأسه بكل أسى وأخبرها أنه من الشهداء!.

 

وأضاف المستشار الهضيبي قائلًا: «لقد تعجبت له أن الذين يقومون بتعذيبه كانوا لا يسألونه إلا سؤالا واحدا فقط، «كنت فين»؟!…ولم يكن يجيبهم إلا بآيات من كتاب الله، حتى كسروا عموده الفقري وبرزت عظامه وضلوعه، وكان ممرض السجن «التمرجي» يخرج من مكان تعذيبه وفي يده صفيحة مليئة بالدم»!.

 

وعن ذلك يقول الأستاذ وهبي الفيشاوي أحد المسجونين بالقرب من زنزانة مُحمد : «أن جِراحه كانت فادحة جدًا ومتقيحة، وأن حالته قد ساءت لدرجة أن الحشرات تسري بين جروحه، وأنه قد امتنع عن الطعام بعد أن مُنع عنه الماء، ولم تمض سوى أيام قليلة على هذا الحديث حتى أطفئت أنوار السجن الحربي كلها في إحدى الليالي، وشاهدت من ثقب زنزانتي حراس السجن الحربي يحملونه ملفوفًا داخل بطانية ويضعونه داخل سيارة جيب مغلقة، وشعرت أنه “الشهيد محمد الصوابي الديب”، وقلت في نفسي استرحت وفزت بالجنة إن شاء الله».

 

ونختم بشهادة الشيخ “حسنين مخلوف” مفتي الديار المصرية عن الشهيد البطل قائلًا: «إذا كانت تربية الشهيد من تربية الإخوان المسلمين، فأنا أضم صوتي بقوة إلى علماء الأزهر في المطالبة بعودة الإخوان المسلمين، فتربيتهم هي خير تربية»!.[١]

 

هكذا اُستشهد البطل المجاهد ودُفن في مكان مجهول لا يعلمه أحد ليلقي الله يوم القيامة بمظلوميته ويطالب بالقصاص في ذلك اليوم الذي قال عنه الله العزيز الحكيم: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفي  بِنَا حَاسِبِينَ} ..

 

إلى ديان يوم الدين نمضي   *  وعند اللهِ تجتمعُ الخصوم

ستعلم في المعاد إذا التقينا  *  غدًا عندَ المليكِ مَنْ الظلوم ..

 

#الذكري_الخمسون_لهلاك_الطاغية ..

#شُـهداء_الحركة_الإسـلامية_في_العصر_الحديث ..

 

هوامش المقال:

[١] كتاب من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، المستشار عبد الله العقيل، ج٢ ص٢٥٣ وما يليها..

[٢] للتفاصيل مقال: ثورة يوليو ووضع النقط على الحروف، الرابط التعليق الأول..

[٣] كتاب الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، محمود عبد الحليم، ج٣ ص٣٣..

[٤] مجلة التايم الأمريكية عدد ٨ نوفمبر ١٩٥٤م، وأيضا كتاب:

جمال عبد الناصر وحادث المنشية، عباس السيسي، ص١٠١..

[٥] الأستاذ «صلاح قبضايا» رئيس تحرير مجلة المسلمون، في مقال بجريدة الشرق الأوسط بعنوان «شك اسمه التاريخ» ١٧ سبتمبر ١٩٨٥م، العدد ٢٤٨٥..

[٦] أسرار حركة الضباط الأحرار، حسين محمد أحمد حمودة، ص٣٦، دار الزهراء للإعلام العربي، طبعة ١٩٨٥م..

التعليقات مغلقة.