“تُقدّم المصلحة العامة على غيرها، ولو استلزم ذلك نوعا من التضحية”. فتقديم المصالح العامة على غيرها في الشريعة أمر مطرد، فمثلا : الذين يجاهدون في سبيل الله – سبحانه وتعالى – يضحون بأنفسهم وأموالهم، لكن العلماء يقولون إن بذلهم لهذه الأنفس والأموال هو الذي يؤدي إلى حفظ بقية النفوس والأموال المعصومة كلها، ولو أن هؤلاء المجاهدين لم يضحوا بأنفسهم وأموالهم لاستولى العدو الكافر على كل ما يحفظه المجاهدون من النفوس والأموال، فكانت المصلحة العامة مُقدّمة، ولو ضحت طائفة مؤمنة من أجلها .

وكذلك تفهم أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما كان يكلم الأنصار ويقول لهم : “إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض” [متفق عليه] فهو يعني أن الناس سوف يستأثرون بالدنيا دونكم، فلا يعطونكم كامل حقكم من هذه الدنيا، والنبي – صلى الله عليه وسلم – هنا لا يقول لهم إن هذه الدنيا ليست حقا لهم، فما العمل ؟ هل نهدمها علي كل من فيها منازعة للحصول على حقنا ؟.. لا، إنه يقول : “اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض” ومعاذ الله أن يكون ذلك إكراما للظلم ورعاية للظالمين أو حتى ذلة أو جبنا من المظلومين، إنما هو الصبر تقديما لرعاية المصلحة العامة حيث لا يمكن أن تحصل كل المصالح، لا غير .

فمن قواعد الترجيح في الموازنات الشرعية، أن المصالح العامة مُقدّمة على المصالح الخاصة، سواء أكانت تلك الخاصة شخصية أو فئوية، فكل ما كان أعم فهو أولى بالمراعاة. وقد كانت تلك المصالح العامة التي روعيت عند الأمر بالصبر في الحديث السابق هي مصالح عموم المسلمين، وكان الأنصار خصوصا منهم، ومع أنهم كانوا خصوصا عظيما جدا، إلا أنهم أمروا بترجيح مصلحة عموم الأمة. فمهما رأى أحد لنفسه أو لفئته اختصاصا بشيء في الدين، بحيث يتوهم ذلك مسوغا للتمييز، ويرتب عليه الترجيح، فليستحضر تميز الأنصار – رضي الله عنهم – وأمرهم بالصبر رعاية وتقديما للمصلحة العامة .

( 7 ) بل “إن مصلحة الضعيف تقدم على مصلحة غيره”. فإن الشرع يرحم الضعفاء ويراعيهم أكثر من غيرهم، لأجل ما قدر عليهم من الضعف، حتى اشتهرت مقولة “الضعيف أمير الركب” أي : إنه عندما تكون هناك مجموعة مسافرة، فإن سرعة سيرهم تكون بمقدار السرعة التي يقدر عليها أضعف سائر منهم .

فالشرع عندما أتى بأحكام المؤلفة قلوبهم، لماذا كان يؤلف قلوبهم ؟.. لأنهم ضعفاء في الدين، فيحتاجون إلى هذا التأليف، لمصلحتهم، أو لمصلحتهم ومصلحة من وراءهم. إن الضعيف في الدين ليس حكمه أن يقتل، بل أن يرحم .

وبهذا نستطيع فهم ما فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – في غزوة حنين، لما هرب الناس، لقد ثبت وطلب أهل بيعة الرضوان، مع أنه كان عددهم حول ألف وخمسمائة فقط. طلب للثبات في الشدة ألفا وخمسمائة من خواص المهاجرين والأنصار، من جيش كان عدده اثني عشر ألفا، وهؤلاء الألف والخمسمائة هم الذين رجعوا وثبتوا وحققوا النصر. فلما أتت الغنائم وكانت كثيرة جدا، لأن قائد الكفار كان قد أخذ مع جيشه كل النساء والأولاد والأموال حتى يستبسلوا في الحرب ولا يهرب منهم أحد، ولم يقبل نصيحة الشيخ الكبير الذي غلط رأيه ذلك، وأخبره أن الهارب لا يفكر فيمن وراءه، فلا بد من ترك شيء يرجع إليه، فكان في الحقيقة قد جمع الغنائم للمسلمين. فلمن يعطي النبي – صلى الله عليه وسلم – أكثر الغنائم ؟.. لقد أعطاها لأول الناس فرارا، ولأحدثهم إسلاما من مسلمة الفتح – أي : فتح مكة – حتى قال ناس من الأنصار : “يغفر الله لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، يعطي قريشا ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : إني لأعطي رجالا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعوا إلى رحالكم برسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به. قالوا : بلى يا رسول الله رضينا.” [متفق عليه] فقد كانوا ضعاف الإيمان، ويمكن للتأليف أن يثبت إيمانهم، لهذا قدم النبي – صلى الله عليه وسلم – مصلحة الضعفاء وأكثر من إعطائهم من الغنائم .

وكما يكون هناك من هو ضعيف في إرادته، أو ضعيف في إيمانه، فيراعى حرصا على مصلحته ومصلحة من وراءه. كذلك هناك الضعيف في فهمه، والذي يحتاج أيضا أن يراعى، حرصا على دينه ودنياه .

يشهد لذلك حديث : ” لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة. فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة” [مسلم] لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدها على قواعد إبراهيم كما كان يحب، رعاية لضعف قريش في الفهم والإيمان، مما قد يدفعهم إلى الظن بأنه أراد أن يهدم بنيانهم لينفرد بشرف بناء الكعبة دونهم، مما قد يستثير حميتهم ضده وضد الإسلام .

فأخذ العلماء هذا الفهم وطبقوه، فلما كانت خلافة عبد الله بن الزبير – رضي الله عنهما – ، هدمها وبناها كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يحب، فلما دخل الأمويين مكة عليه في عهد عبدالملك بن مروان، لم يحبوا أن يتركوا الكعبة على بناء ابن الزبير، حتى لا تكون مذكرة للناس به، فحملتهم الخصومة الدنيوية على أن هدموها وأعادوها مرة أخرى على البناء الأول، والذي لا زال موجودا إلى يومنا هذا .

وبعدما اختفت الخصومة، وزالت المنازعة، جاء خلفاء أرادوا أن يطبقوا السنة، ويعيدوها إلى بناء إبراهيم، لكن الفقهاء نهوهم عن ذلك، وأمروهم بتركها، حتى لا تكون شيئا متغيرا مع الملوك، مما يقلل هيبتها الدينية الواجبة لها في قلوب عموم الناس. فمع أنها هكذا أنقص وليست أكمل، إلا أن المصلحة الأعلى، كانت في أن يُراعي ضعف فهم الناس .

فإذا تكلم واحد من قادة المسلمين أو زعمائهم، من المعبرين عن الملة أو الأمة، فلا بد أن يراعي الضعفاء في كلامه. وإذا أخذنا موقفاً سياسياً، فلا بد أن نراعي فيه الضعفاء، بل ونقدّم فيه حساباتنا مصلحة هؤلاء الضعفاء، سواء أكانوا من الضعفاء في دينهم أو دنياهم أو فهمهم، إذ أن كل هؤلاء الناس نحن مطالبون شرعاً أن نقدّم مصلحتهم على غيرهم عند التعارض .

من د. أشرف عبد المنعم

عضو اللجنة العلمية بالجبهة السلفية بمصر