من أعجب مواطن الذكر في القرآن ذلك الذي حوته سورة آل عمران مقترنا بما قد يظن أنه أبعد شيء عن تلك العبادة

عبادة الذكر

إنه الذكر عند ارتكاب المعصية

بل عند اقتراف الفاحشة

عند ظلم النفس بالخطيئة

 

“وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ”

 

هاهنا ذكر!

أنَّى هذا؟

أوليس الأصل أن العاصي يكون ناسيا أو متناسيا وغافلا أو متغافلا؟

كيف يجتمع ذلك مع الذكر؟

إجابة ذلك تتبين حين ندرك من هؤلاء الذين ذكروا الله عند المعصية أو بعدها مباشرة

إن اللفظ الذي أطلق عليهم ابتداء ليس لفظا مرتبطا بالمعصية أو الفاحشة

ليسوا مجرمين أو فاجرين أو فاسقين

 

إنهم المتقون

الآيات تتحدث عن هذا الصنف الذي لأجله أعدت الجنة التي عرضها السماوات والأرض

تتحدث عن صفاتهم وخصائصهم

عن إنفاقهم وجودهم في السراء والضراء وعن كظمهم غيظهم وعفوهم وإحسانهم

ثم تتحدث عن معاصيهم

نعم… إنهم يعصون

رغم ذلك الوسم الشريف الذي قدموا به

إنهم متقون

لكنهم يظلوا مع ذلك من بني آدم وكل بني آدم يخطئون ويزلون ويعصون إلا من عصم الله

 

متقي ويعصي

ملتزم ويخطئ

متدين ويزل ويضعف

أتجتمع هذه الصفات؟

نعم

لكن الفارق الذي ميزهم وجعل وقوعهم في المعصية مختلفا عن طريقة الفاسقين والفاجرين والمجرمين هو تلك اللحظة التي يستفيقون فيها

لحظة الذكر

“ذَكَرُوا اللَّهَ…

مطلوب بعدها ألا يتمادى المؤمن في نسيانه وغفلته بل يسارع إلى التوبة والاستغفار وبداية ذلك تكون بالذكر

لذلك بعدها مباشرة جاءت التوبة وطلب الاستغفار ورحل الاجتراء الإصرار

فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ”

لأجل ذلك الرجوع السريع والأوبة العاجلة ظلوا من المتقين رغم وقوعهم في الفاحشة

لأنهم لم يصروا

تابوا وأنابوا واستغفروا واعترفوا ولم يستنكفوا أو يماروا ويستكبروا

وهذه هي معصية المؤمن التقي أو من اصطلحنا على تسميته بالملتزم

إنه ليس مُصرا ولا معاندا

ليس مكابرا ولا صاما أذنيا متغافلا

إنه ذكار أواب منيب وإن عصى

الذكر هنا ليس قاصرا على بعض حركات الشفاة التي لا تجاوز الحناجر ولا تمس القلوب أو ينعكس صداها على الأفعال؟!

الذكر هنا أعظم من ذلك كثيرا وأشمل

الذكر حياة كاملة

يمكنك القول أن جوهر الذكر هنا ببساطة ومباشرة = أن تظل ذاكرا له لا تنساه

وإذا نسيت عدت فتذكرت وأنبت ورجعت

هكذا بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في وصفه المفصل لحال المؤمن العاصي

في الحديث “لكل عبد مؤمن ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا

تأمل…

هذا عبد مؤمن بشهادة الحبيب صلى الله عليه وسلم لكنه مع ذلك يزل ويخطيء وبل يكرر نفس الأخطاء

والحل لخصه النبي بعد ذلك حين ذكر ما ينبغي أن تكون عليه صفة المؤمن تجاه الذنب الذى ضعف أمامه واعتاده الفينة بعد الفينة

لقد لخص تلك الصفات في جملة جامعة رائعة جمعت صفات أربعة تتوازن سويا فقال ” إن المؤمن خلق مفتنا توابا نسيا إذا ذكر تذكر ”

فمفتنا تعدلها توابا… هو عرضة للفتن وقد يقع فيها لكنه يسارع بالتوبة

وهو نسيٌّ يقع في الغفلة ويعتريه النسيان كما اعترى أباه الأول عليه السلام

لكنه في النهاية يقبل التذكرة والنصح

ويتذكر…

حينئذ لا يعد ما هو عليه إصرارا ولا فجورا ما دامت جذوة الندم متقدة والرغبة في الإصلاح والتغيير لم تزل حية

لكنه الضعف البشري

هذا هو المنطلق الذي منه وقع في المعصية وليس استكبارا أو جحودا أو استحلالا

ولأجل ذلك سهلت عليه العودة عندما تذكر

وعندما حاول اكتساب القوة في مواجهة ذلك الضعف البشري

ولا يكون ذلك إلا باستمدادها ممن لا حول ولا قوة إلا به..

من الله

حين ذكره..

د. محمد علي يوسف

من د. محمد علي يوسف

طبيب وكاتب وخطيب ومحاضر