كانت في الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك بقية من خير، ولهذا كان يحب سماع آراء العلماء وعظاتهم.. وهناك واقعة مشهورة له مع التابعي الجليل أبو حازم سلمة بن دينار-رضي الله عنه- لقّنه فيها ولَقّن الحكام من بعده دروسًا لا تُنسى.. فقد مر بالمدينة، وهو في الطريق إلى مكة للحج، فسأل عن التابعين الذين أدركوا أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقيل له: بلى، ها هنا رجل يقال له “أبو حازم” فبعث إليه فجاء، فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم -كُنية سلمة- ما هذا الجفاء؟

 

قَالَ: وأي جفاء رأيت مني؟

 

قَالَ: أتاني أهل المدينة ولم تأتني!

 

قَالَ: يا أمير المؤمنين وكيف يكون إتيان من غير معرفة متقدمة، وَالله ما عرفتني قبل هذا اليوم ولا أَنَا رأيتك فاعذر،

 

قَالَ: فالتفت سُلَيْمَان إِلَى الزهري فَقَالَ: أصاب الشيخ وأخطأت أنا.. ثم سأل سليمان: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت،

 

فأجابه: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب،

 

قال: صدقت، فكيف القدوم على الله عز وجل غدًا

 

قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه،

 

فبكى سليمان وقال: ليت شعري، ما لنا عند الله؟

 

قال: يا أمير المؤمنين اعرض عملك على كتاب الله عز وجل،

 

قال: وأين أجده؟

 

قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [سورة الانفطار: 13، 14]،

 

قال: يا أبا حازم، فأي عباد الله أفضل؟ قال: أولوا المروءة والتقى، قال: فأي الأعمال أفضل؟

 

قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي الدعاء أسمع؟ قال: دعوة المحسن للمحسن، قال: فأي الصدقة أزكى؟ قال: صدقة السائل البائس وجهد من مقل ليس فيها منٌ ولا أذى؛ قال: فأي القول أعدل؟

 

قال: قول الحق عند من يخافه أو يرجوه؛

 

قال فأي الناس أحمق؟

 

قال: رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره؛

 

قال: صدقت، فما الذي تقول فيما نحن فيه؟

 

قال: يا أمير المؤمنين أو تعفيني من ذلك قال: لا، ولكن نصيحة تلقيها إلي؛

 

قال: إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضا، حتى قتلوا عليه مقتلة عظيمة وارتحلوا عنها، فلو سمعت ما قالوا وما قيل لهم؛ فغشي على سليمان، فقال رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم!

 

قال أبو حازم: كذبت يا عدو الله، إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبينّنه للناس ولا يكتمونه،

 

فأفاق سليمان فقال: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح للناس؟

 

قال: تدع الصلف وتستمسك بالمروءة وتقسم بالسوية،

 

قال سليمان: كيف المأخذ به؟

 

قال: أن تأخذ المال من حله وتضعه في أهله..

 

قال سليمان: هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟

 

قال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين!

 

قال: ولم؟

 

قال: أخشى أن أركن إليكم شيئًا قليلًا فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، قال: يا أبا حازم ارفع إلي حوائجك،

 

قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة، قال: ليس ذلك إلي، قال: فلا حاجة لي غيرها، قال: فادع لي الله يا أبا حازم،

 

قال: اللهم إن كان سليمان وليّك فيسّر له خير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى..

 

قال سليمان: زدني،

 

قال:”يا أمير المؤمنين قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله، وإن لم تكن من أهله فيما ينبغي لي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر”..

 

قال سليمان: أوصني يا أبا حازم،

 

قال: “سأوصيك وأوجز: عظّم ربك و نزّهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك من حيث أمرك”..

 

ثم قام.. فبعث إليه سليمان بمائة دينار، وكتب إليه أن أنفقها ولك مثلها كثير، فردها عليه وكتب إليه: “يا أمير المؤمنين أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلًا وردي عليك باطلًا، فو الله ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي يا أمير المؤمنين إن كانت هذه المائة عوضًا لما حدثتك فالميتة ولحم الخنزير في حل الاضطرار أحل من هذه، وإن كانت هذه حقًا لي في بيت المال فلي فيها نظر، فإن سوّيت بيننا وإلا فلا حاجة لي فيها”..

 

فقال له جلساؤه: يا أمير المؤمنين أيسرك أن يكون الناس كلهم مثله،

 

قال: لا والله.. ثم قال أبو حازم: “يا أمير المؤمنين إن بني إسرائيل ما داموا على الهدى والرشد، كان أمراؤهم يأتون علماءهم رغبة فيما عندهم، فلما جاء قوم من أراذل الناس، تعلموا العلم وأتوا به الأمراء يريدون به الدنيا، استغنت الأمراء عن العلماء، فتعسوا ونكسوا وسقطوا من عين الله عز وجل.. ولو أن علماءهم زهدوا فيما عند الأمراء، لرغب الأمراء في علمهم، ولكنهم رغبوا فيما عند الأمراء، فزهدوا فيهم, هانوا في أعينهم”.

 

رضي الله عن التابعي الجليل سلمة بن دينار وأرضاه