بسام جرار
Latest posts by بسام جرار (see all)

جاء في الآية 15 من سورة طه:” إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى”.

 

قال الطبري رحمه الله:” أكاد أخفيها من نفسي، لئلّا يطلع عليها أحد، وبذلك جاء تأويل أكثر أهل العلم”. ويوضِّح مقصد الطبري ما نُقل عن السدّي:” كتمتها عن الخلائق، حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت”. ويحمل بعض المفسّرين هذا المعنى على المبالغة، فمثل هذا التعبير مستخدم في العربيّة للمبالغة.

 

وقال الألوسي:” وحاصله أكاد أبالغ في إخفائها فلا أُجمِل كما لم أُفصّل”. ويوضح هذا المعنى ما قاله ابن عاشور:” والإخفاء: الستر وعدم الإظهار، وأريد به هنا المجاز عن عدم الإعلام”، وقال: المراد إخفاء الحديث عنها، أي من شدّة إرادة إخفاء وقتها، أي يراد ترك ذكرها ولعلّ توجيه ذلك أنّ المكذبين بالساعة لم يزدهم تكرر ذكرها في القرآن إلا عناداً على إنكارها”.

 

ونقل ابن عاشور عن أبي عليّ الفارسي أنّ أُخْفِيها بمعنى أظهرها، فقد قال أبو علي الفارسي: “إنّ همزة أخفيها للإزالة مثل همزة أعْجَم الكتابَ، وأشكى زيداً، أي أزيل خفاءَها”. والخفاء: ثوب تُلفّ فيه القِربة مستعار للستر.

 

واضح من هذه الأقوال وغيرها أنّ أهل التفسير قد استشكلوا هذا التعبير القرآني. ويرجع هذا الاستشكال إلى حقيقة أنّ خبر الساعة مخفيّ لا يعلمه إلى الله تعالى. ويرجع أيضاً إلى حقيقة أنّ كاد في اللغة العربيّة تشير إلى قرب الوقوع مع عدمه؛ فعندما تقول:” أكاد أضربه”، تكون قد صرّحتَ بعدم حصول الضرب، ولكن احتمال حصوله قريب جداً. وعندما يقول تعالى:” أكاد أخفيها”، فإنّ ذلك يعني أنّه سبحانه لم يخفها، وإن كان احتمال إخفائها قريباً جداً. وهذا يعني أنّ الساعة ظاهرة.

 

جاء في الآيات (42–44) من سورة النازعات:” يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا،  فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا، إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا”، قال ابن عاشور:” مُرساها: مصدر ميمي لفعل أرسى، والإِرساء: جعل السفينة عند الشاطىء لقصد النزول منها. واستعير الإِرساء للوقوع والحصول تشبيهاً للأمر المغيَّب حصوله بسفينة ماخرة البحر لا يُعرف وصولها إلا إذا رسَتْ”.

 

والذي نراه راجحاً أنّ الأمر بوقوع الساعة قد صدر عن الخالق سبحانه وتعالى منذ زمن. وقد يكون هذا معنى قوله تعالى في مستهل سورة النحل:”أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ…”، وهذا يعني أنّ الكون قد استجاب للأمر الإلهي فهو يتحول في كينونته تجاه وقوع الساعة وقيام القيامة، ومن هنا شُبّهت الساعة بسفينة سائرة في اتجاه مرساها، وسوف تصل هذا المرسى، وعندها تقع أحداثها العظام وترسو وتستقر. واللافت أنّ السؤال هو عن زمن رسوها واستقرارها:” أيان مرساها؟!”؛ فوقت رسوها غيب لا يعلمه إلا الله تعالى.

 

جاء في الآية 187 من سورة الأعراف:” يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ”.

 

قال ابن عاشور:” والإرساء الاستقرار بعد السير”، فهي إذن تسير ثمّ تستقر. وعندما تستقرّ تقع أحداثها العظام، ومن ذلك البعث والنشور، ووقت ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى، بل إنّ حقائق سيرها في اتجاه وقوعها هو غيب لا يعلمه إلى الله. أمّا قوله تعالى:” لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلا هُوَ”، فيشير بوضوح إلى أنّها ستُكشف في وقتها المحدّد كشفاً لا لبس فيه، كما هي العروس التي تتجلى لعريسها، وتكون قبل ذلك مستورة لا يظهر منها إلا الثياب الساترة لتفاصيل جسمها.

 

أمّا قوله تعالى:” ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ”: فيقول الطبري:” وأولى ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ثقلت الساعة في السموات والأرض على أهلها، أن يعرفوا وقتها وقيامها; لأنّ الله أخفى ذلك عن خلقه، فلم يُطلع عليه منهم أحدًا..”، ومثل هذا التوجيه من الطبري رحمه الله، لأنّه في ظننا لم يتوقّع أن تكون قد ثقلت الساعة في الواقع الكوني على الحقيقة. والذي نراه أنّ الأمر يشبه وضع المرأة الحامل التي أثقلت فتكاد تضع، وكذلك الساعة شأنها أنّها أصبحث ثقيلة يوشك بناء السماوات أن يعجز عن التماسك أمام ثقلها فتقع كما يحصل مع الحامل عندما تضع.

 

أمّا قوله تعالى:” لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً”، فيشير إلى أنّها ستأتي، بل إنّها آتية وستصل فتأتي الناس، بل وتجيء – على اعتبار أنّ المجيء أشدّ قرباً من الإتيان –  ويكون مجيؤها مباغتاً للناس غير متوقع منهم.

 

أما قوله تعالى في الآية 77 من سورة النحل:”… وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ…”، فلا يشير إلى الساعة وإنّما يشير إلى أمرها، أي عظيم شأنها، والذي يكون عند وقوعها وقيامها. ويمكن تقريب الفكرة بواقع الصاروخ عابر القارات، الذي ينطلق ويسير زمناً ثمّ يقع فيكون الانفجار، الذي يكون سريعاً وهائلاً.

 

عندما تقوم – ومن معاني القيام الوقوف بعد سير – الساعة وتقع يتمّ الحشر والحساب، فيؤول الناس إلى الجنّة أو النار. وبذلك تنتهي الساعة وتختفي ويظهر ويستقر الواقع الجديد. فتكون نتيجة اختفاء الساعة أن تُجزى كل نفس بما تسعى.

 

وعليه يمكن أن يكون معنى:” إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى”: أكاد أخفيها، ولَمّا أفعل بعد، ولكن ذلك يوشك أن يقع، وعندها تكون النتيجة أن يدخل أهل الطاعة الجنّة وأهل المعصية النّار. فالساعة إذن تقوم لحكمة ثمّ تختفي، وهذا من أعظم أمورها لأنّه ينجلي عن جنة أو نار.

 

قد يُشكل على البعض أنّ هذا الكلام خوطب به موسى، عليه السلام، أي قبل ما يقارب الـ 3400 سنة، ولا ندري كم بقي من الزمن حتّى تتوقف الساعة فتقع. وهذا زمن طويل، أطول من أن يكون قريباً!

 

الجواب عن ذلك نجده في أبحاث العلماء الذين يُشيرون إلى مليارات السنين التي مرّت على هذا الكون المخلوق. فإذا عرفنا هذا أدركنا أنّ الألف سنة ما هي إلا لحظة صغيرة قياساً إلى عمر الكون المغرق في القدم. وإذا كان الأمر الإلهيّ قد سرى في الكون الهائل وتمّ تنفيذه بسرعة الضوء فإنّ ذلك سيحتاج إلى مليارات السنين، ولكنّ أمر الله أسرع نفاذاً من ذلك، ويكون نفاذ الأمر وفق ما تريده الحكمة الإلهيّة، وجاءت الأحاديث الشريفة لتبيّن لنا أننا نعيش في آخر الزمن. نسبة إلى عمر الدنيا.

من بسام جرار

كاتب وباحث إسلامي فلسطيني