الأمة || في ٢١ من شهر رمضان المعظم سنة ٤٠ من الهجرة النبوية المباركة، استُشهد علي بن أبي طالب، رابع الخلفاء الراشدين المهديين، الإمام المكرم سيدُ آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرُهم بعد نبيهم، وزوجُ السيدة البتول فاطمة الزهراء، وأبو سبْطَيْ رسول الله عليه الصلاة والسلام: الحسن والحسين، عليهم جميعا صلاة الله وسلامه.

 

هذا الرجل من أعظم الناس شأنًا وأكبرهم قدرا في امتداد التاريخ، فهو ثاني إنسانٍ يُسلم بعد السيدة خديجة أم المؤمنين عليها السلام، وقيل هو الثالث بعد خديجة وزيد بن حارثة رضوان الله عليهم، وأسلم صغيرًا فتيًّا، ومن قبلُ كان يعيش في كنف سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، ونشأ وكبِر في رعايته، وكان من أرسخ أهل الإسلام قدَمًا في دين الله وأشدهم حياطةً عنه.

 

وكان حسيبا نسيبا، أبوه أبو طالبٍ عمُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم شقيقُ أبيه وكافلُه طَوالَ عمره حتى توفي في الشِّعب سنة ١٠ من البعثة النبوية، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم رضي الله عنها وهي ابنةُ عم أبي طالب، وهي أول هاشميةٍ تَلِدُ لرجلٍ من بني هاشم، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمًّا رَؤومًا وقلبًا عطوفا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها، وأخوه جعفر الطيار ذو الجناحين رضي الله عنه وأرضاه، شهيدُ معركة مؤتة.

 

وعليٌّ رضي الله عنه أول فدائي في الإسلام، ومن أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مناقبَ وفضائل، لم يتغيَّبْ عن مشهدٍ إلا ما يأمرُه به النبي صلى الله عليه وسلم، كحِينَ استخلفه على المدينة أيام غزوة تبوك، وكان عظيم الحضور في كل مشهد يقوم فيه، ومن أثبت الصحابة جَنانًا وأشجعهم نفسًا في الغزوات والمعارك، لا يصمد أمامه أحدٌ ممن يقاتله، وكان من قادة السرايا وحمَلَة الألوية في المغازي، كما أنه من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليهم وسلم وأغزرهم فقهًا وهو أقضاهم، وكان ممن انتهى إليهم العلمُ والفتيا من الصحابة رضي الله عنهم.

 

كما كان من أحَبِّ أهل الأرض إلى سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، وممن حُبُّه إيمانٌ وبغضُه نفاقٌ، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن كنت مولاه، فعَلِيُّ مولاه”، ويكفيه فخرا أنه تزوج سيدة نساء العالمين ابنةَ سيدةِ نساء العالمين، فاطمة بنت خديجة عليهما السلام، وأنجب منها سيِّدَيْ شباب أهل الجنة وسبطَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عَقِبَ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه كلُّهم من ذرية علي رضوان الله عليه.

 

ولا يتسع هذا المقام لحكاية مناقبه وفضائله، ولا يفي بالكلام عن اتساع علمه ووُفورِ حكمته ورجاحة عقله وشجاعة قلبه وزكاء نفسِه ورفعة أخلاقه ووَرَعه وزهده في الدنيا وتواضعه الجَمِّ ومعرفته أقدارَ الناسِ وإنزالِهم منازلهم، وما شئتَ بعدُ من استعانة رسول الله صلوات الله عليه وسلامه به في كبار الأمور، ثم استعانة خلفاءِ النبي صلى الله عليه وسلم به في المعضلات الكبار، وغوصِه العجيب على الدقائق وحلِّه لما تعقَّد من المسائل والمشكلات.

 

على أن في عليٍّ خصلةً مُعجِبةً غريبة، كان هذا الرجل من أهل الآخرة، لم يكن يحبُّ الدنيا ولم تحِبَّه، وما زالت تكدِّرُ صفْوَ عيشِه مرة بعد مرة، حتى حُصر عثمان رضي الله عنه ثم استُشهد، فنزَعَتِ الدنيا عن عليٍّ يدَ حنوِّهَا وتسلطتْ عليه بأكدارها وهمومها ولم يستقِم له زمانٌ صافيًا من رنْقٍ، حتى لَكان يستعجل الشهادةَ ليستريح بها مما عالجَ من النصَب، فجاءته الشهادة على يدِ رجُلٍ يزعم أنه قتل عليًّا ليبلُغَ رضوان الله، فيا بؤسًا لدنيا يكونُ حالُ رجل مثل علي بن أبي طالب فيها هذا الحالَ، وهو الذي لو كانت الدنيا تجري على أقدار الرجال ومراتبهم لَكان حريًّا أن يكون من ملوكها شرقا وغربا، لا يلحقُه فيها كدرٌ ولا يمسُّه من بلوائها ضرٌّ ولا وَضَرٌ، ولكن لله الأمرُ!

 

ومن نكد الدنيا أيضا أن عليا عليه السلام لا تُقرَأ سيرتُه إلا مَشوبةً بما لا حد له من الخلافات والنزاعات، تتجاذبُه الفِرق المتنافرة ويهلِكُ فيه المفْرِطون في المحبةِ والمغالون في الشنآن، ولا تجد إلا دفعًا للشُّبُهات وردًّا للطعون ونحو ذلك، حتى أنك لَتجِدُ الرجل ممن ينتسب للسنة، إذا ذُكرَ عليٌّ عنده اضطربَت نفسُه تخوفًا أن يُتَّهم بالتشيع، وإذا حُكِيَت منقبة لعلي قال: لعلها من وضْع الشيعة، وتجدُ الشيعة ينتحلونه وينفون الناسَ عنه، وهكذا لا تصفو له الدنيا حيًّا ولا ميْتًا، ولكن حسبُ عليٍّ رضي الله عنه أنه من رجال الآخرة المخلَصين، ويكفيه عن الدنيا ما له عند الله، وما عند اللهُ خيرٌ وأبقى!.

من د. أنس الرهوان

طبيب، كاتب وباحث