على الرغم من أن نظام الحكم في السعودية قد دأب منذ عامين على الإفصاح عن الكثير من مظاهر الغزل تجاه إسرائيل؛ إلا أن الرسائل التي حرص ولي العهد محمد بن سلمان على تضمينها في المقابلة التي أجراها معه الصحفي اليهودي جيفري جولدبيرغ ونشرتها مجلة “أتلانتك”، تمثل تحولا هائلا على التحركات السعودية الهادفة للتمهيد لإحداث تحول جذري على العلاقة بين الرياض وتل أبيب.

فلم يحرص بن سلمان فقط على التأكيد على طابع المصالح المشتركة التي تربط السعودية بإسرائيل، وهو ما يمثل أول إقرار سعودي بذلك وعلى أعلى مستوى؛ بل أنه ذهب بعيدا في تبنيه لبعض صيغ حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي تتقاطع مع منطلقات اليمين المتطرف في تل أبيب. وقد أضفى ما تضمنته المقابلة على لسان بن سلمان صدقية على التسريبات التي أكدت أن الرياض مارست ضغوطا على قيادة السلطة لقبول فكرة التنازل عن القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية والقبول بأبو ديس كبديل لها. لكن أكثر ما عكس الشوط الطويل الذي قطعه بن سلمان في محاولاته مغازلة إسرائيل تمثل في ادعائه أن حركة حماس تمثل تهديدا للأمن القومي السعودي.

فعند تفكيك ما ورد على لسان بن سلمان في المقابلة، يتبين بوضح أنه نسف من الأساس ما جاء في المبادرة العربية للسلام التي تبنتها القمة العربية في بيروت عام 2002.

فعندما يبدي بن سلمان موافقته عل حق اليهود، كيهود في دولة، فأن هذا يمثل تبنيا لموقف حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب التي تطالب باعتراف الفلسطينيين والعرب بيهودية إسرائيل. ويعني اعتراف الفلسطينيين والعرب بيهودية إسرائيل الموافقة مسبقا على كل الموافق التي تتبناها حكومة تل أبيب والإجراءات التي تقدم عليها لضمان الطابع اليهودي لـ “الدولة”، وضمن ذلك رفض حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة وإضفاء شرعية على التمييز على أسس عرقية ودينية ضد فلسطينيي الداخل وغيرها.

وقدم بن سلمان إشارة غير مباشرة لموافقة السعودية على الأفكار الأمريكية، التي أطلق عليها “صفقة القرن” والتي تنص على وجوب تنازل الفلسطينيين عن القدس، كعاصمة لدولتهم، عندما أشار إلى مصير المسجد الأقصى فقط، دون أن يشير إلى مصير القدس ومكانتها السياسية في أية تسوية للصراع. فقد كانت المقابلة فرصة أمامه للرد على التسريبات التي أكدت أنه شخصيا مارس ضغوطا على عباس للقبول بأبو ديس عاصمة. من ناحية ثانية، فأن الإشارة إلى مصير المسجد الأقصى يعيد للأذهان ما أشارت إليها وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرا من أن السعودية معنية بالحلول مكان الأردن كالطرف المسؤول عن الإشراف على الأماكن المقدسة في القدس.

لكن قبل الحكم على ما جاء في مقابلة بن سلمان، فأنه يتوجب إدراك طابع السياق الذي جاءت فيه هذه الصريحات. فولي العهد السعودي منشغل حاليا في ذروة تحرك لمراكمة الشرعية لتوليه الحكم داخل الولايات المتحدة، حيث أنه يرى أن الطريق الأنسب لتحقيق هذا الهدف هو ضمان تأييد أصدقاء إسرائيل من أصحاب النفوذ داخل الولايات المتحدة من خلال مغازلة تل أبيب وتبني المواقف التي تتقاطع مع حكومة اليمين فيها.

لكن بن سلمان في حرصه على استرضاء الإسرائيليين تجاوز الكثير من الحقائق، حيث أنه يعي أن حركة حماس لم تقدم على أي عمل أو سلوك يمكن تفسيره على أنه تهديد للأمن القومي السعودي؛ في حين أن إسرائيل، وباعتراف وسائل إعلامها، عملت وتعمل بشكل حثيث على المس بالمصالح الإستراتيجية للسعودية.

فقد كشفت قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة مؤخرا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خصص مساحة كبيرة من لقائه الأخير مع الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض لحثه على عدم تزويد الرياض بمفاعلات نووية. كما تواترت تأكيدات وسائل الإعلام الإسرائيلية التي أكدت أن تل أبيب تمارس ضغوطا كبيرة على واشنطن لعدم السماح بتزويد الرياض بطائرات “إف 35”.

المفارقة، أن الإسرائيليين يسوغون هذه المطالب بحجة أن فرص نظام الحكم الحالي في الرياض في الصمود محدودة، وبالتالي فأن سقوطه يعني أن يقع السلاح النوعي الذي تزوده واشنطن للسعودية في أيدي أطراف معادية.

ليس هذا فحسب، بل أن محافل التقدير الإستراتيجي الرائدة في تل أبيب، وتحديدا “مركز أبحاث الأمن القومي” قد عكفت مؤخرا على إصدار عدة دراسات تحذر فيها الولايات المتحدة من مغبة الرهان على بناء مصالح طويلة الأمد مع بن سلمان، على اعتبار أن فرص تفكك السعودية تحت حكمه كبيرة؛ وبالتالي فان يجدر توخي الحذر في الاستثمار بعيد المدى فيها.

ليس هذا فحسب، بل أن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الأسبق عاموس يادلين، الذي يرأس “مركز أبحاث الأمن القومي” والباحث يوئيل جوزنسكي، مدير أبحاث الخليج في المركز قد أعدا دراسة مؤخرا تدعو إسرائيل للاستعداد لمواجهة السعودية والتمهيد لذلك بتكثيف جمع المعلومات الاستخبارية عنها.

لكن على الرغم من ذلك، فأن الحرص على مراكمة الشرعية، سيدفع محمد بن سلمان لمواصلة نهج مغازلة إسرائيل، الذي تمثل مؤخرا في السماح مؤخرا، ولأول مرة، لطائرات الخطوط الجوية الهندية المتجهة لإسرائيل بالتحليق في الأجواء السعودية، إلى جانب إشهار عدد من مظاهر التطبيع مثل اللقاءات بين عدد من كبار المسؤولين السابقين مع قيادات إسرائيل.

من د. صالح النعامي

صحفي فلسطيني، باحث في الشأن الإسرائيلي، دكتوراة في العلوم السياسية