هناك مشروعان كبيران، يشتدّان الآن في الواقع الجزائري.. وهما : مشروع الإطاحة بعصابة الحكم والفساد السياسي والمالي.. ومشروع الإطاحة بالدولة العميقة..

 

وكأنّ الشعب الجزائري كان ينتظر هذه الفرصة التي يطيح فيها بالعصابة التي أرهقته، لعشرين سنة، وبالدولة العميقة التي أذلته ستين سنة..

 

المشروع الأول، مشروع آني ظرفي.. سينتهي حين يحقق ما قام لأجله..

 

أما المشروع الثاني، فقد انطلق الآن، لكنه سيستمر لسنوات ليحقق أهدافه في إنهاء التغلغل الخطير الذي استند إلى النظام السياسي،واستعمل السلطة، للسيطرة على الشعب والبلاد.. وليصبحَ المتحكم في المال والثقافة والسياسة والإدارة..

 

الدولة العميقة، لها ملف أسود من الناحية الأمنية وحقوق الإنسان، فيه الكثير من الجرائم.. والقمع والإبادة والتصفية.. ولو فتح ملف واحد اليوم، وهو ملف تصفية الصحافي (محمد تامالت).. لشهد العالم عملية إزهاق للروح، أسوأ بكثير من تلك التي تعرض لها الصحافي السعودي ( خاشقجي).. ولأدينت شخصيات كثيرة..

 

ولها ملف أسود من ناحية الفساد المالي ونهب الثروات الوطنية، والعبث بالخزينة العامة، والاستئثار بالمشاريع..

 

ولها ملف أسود، في الناحية الدينية والثقافية، إذ عمدت طوال عقود إلى استفزاز الشعب في عقيدته وشريعته وأخلاقه وثوابته ورموزه وانتمائه..

 

ولها ملف أسود في المواطنة، حيث فرّقت لعقود بين مواطن من جهة معينة، وآخر من جهة أخرى، بل وسجلت مطالبات وشحن عرقي رهيب، بطرد عرقيات معينة، بدعوى كذبة (السكان الأصليين وغير الأصليين)..

 

اليوم.. وتزامُنًا مع الحراك المطالب بإسقاط العصابة الحاكمة، وإنهاء العهد البوتفليقي، ينتشر وعي واسع بوجوب إسقاط الدولة العميقة، وتحريك ملفات إدانتها.. وتتبع تموقعها وهيمنتها على مفاصل الدولة بغير حق..

 

ومثلما تبدو العصابة البوتفليقية اليوم، في موقف صعب، تبدو أيضا الدولة العميقة في وضع صعب.. وهو ما يفسّر الكثير من الصراخ، ومحاولات النجاة..

 

ولعل الكثيرين قد لاحظوا خلال الأيام الماضية، لغة الاستكانة والتمسكن التي تمارسها شخصيات من الدولة العميقة.. بالعزف على وتر ( الأخوة) و(الوطن للجميع) والتعايش..

 

ولعل بعض ناقصي الوعي ينخدعون بهذه المواقف والشعارات.. ولئن انخدعوا بذلك، فسيعطون فرصة لهذا الكيان الموبوء، لاستعادة أنفاسه وإعادة إنتاج نفسه..

 

يجب على الوعي الشعبي اليوم أن يتجه نحو استعمال القضاء والقانون، لفتح ملفات لكل المتسببين في الفساد والإجرام والتصفيات، من وجوه الدولة العميقة..

 

وهنا، سأركّز على تجلية صورة جهتين تحاولان مساعدة الدولة العميقة على النجاة..وهما:

 

  • الإسلاميون، وضحايا التسعينيات:

 

والمؤسف في الأمر، أن ترى الكثير من ضحايا التسعينيات لهذه الدولة العميقة، يصطفون اليوم معها، ويتجاوزون عن سيئاتها، بنظرة تشبه (الحَوَل) السياسي.. زاعمين أنّ عداوتهم الأساسية اليوم، يجب أن تتجه إلى (المؤسسة العسكرية) لا إلى جنرالات الدم وحلفائهم من نشطاء السياسة..

 

وهؤلاء يشبهون إلى حد كبير، شخصا صدمه صاحب سيارة وفرّ، وبعد سنوات، وجدَ المصدوم هذه السيارة، فجمع لها نفرا من أقربائه، وقام بتحطيمها والاعتداء على سائقها.. دون النظر إلى أنّ العبرة هنا بالسائق لا بالسيارة، وهذه السيارة قد باعها صاحبها الفار، لهذا الشخص الذي دفع الثمن على شيء لم يرتكبه..

 

مشكلة أصحاب هذه النظرة التي لا تعترف بقانون (التحيين) الشبيه بتحيين برامج الكمبيوتر، في كونهم، لا يريدون أن يفهموا أنّ العبرة ليست باسم (المؤسسة العسكرية)، بل بقيادة المؤسسة العسكرية.. وقيادة الجيش اليوم، غير قيادته في التسعينيات.. فكيف يصطف ضحايا التسعينيات مع جلّاديهم من جنرلات الدم، ضد قيادات لم تطلق اليوم رصاصة واحدة على المتظاهرين..؟

 

أليس الأمر شبيها، بمن يعاقب صاحب سيارة جديد، على جرم صاحبها القديم الذي صدمه وفرّ؟

 

من هنا، ندرك وهم الذين يتحدثون عن (سيسي) جزائري.. فهل السيسي هو قيادة الجيش الحالية، أم القيادة القديمة التي فعلت ما لم يفعله السيسي؟ هل السيسي هو صاحب السيارة الذي صدم وفرّ؟ أم أنه صاحب السيارة الجديدة الذي لم يصدم، لكن التهمة تبقى تطارد سيارته..؟

 

هذه الثنائية في قراءة المؤسسة العسكرية، بين ماضيها وحاضرها، سيجعل ضحايا الأمس يصطفون مع جلاديهم من جنرالات الدم، لمعاقبة المؤسسة العسكرية الحالية.. وهو ما يحوّل جناة الأمس إلى مناضلين شعبيين، ويعطيهم حصانة الحراك لعدم محاسبتهم..

 

2- مفرخة الأفافاس :

تبدأ مشكلة فهم الأفافاس، من تعريفه.. فما هو الأفافاس؟

الذين يظنون الأفافاس حزبا، لن يستطيعوا فهم خيوط اللعبة السياسية في الجزائر..وسيبقى وعيهم ناقصا..

 

لأنّ الأفافاس ليس حزبا، بل هو (مفرخة إنتاج) خرجت منها الكثير من الشخصيات والهيئات والأحزاب والجمعيات الحقوقية والثقافية، وحتى الماك وما هو على شاكلته..

 

ارجعوا إلى الصور القديمة لمناضلي الأفافاس، لترَوْا شخصيات، بعضهم صاروا وزراء، وبعضهم رؤساء أحزاب، وبعضهم رؤساء جمعيات حقوقية، وبعضهم رؤساء وزارات ومسؤولين كبارا، وبعضهم تخصصوا في المال والأعمال،فهيمنوا على الخزينة العامة والمشاريع والثروات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى للدولة..

 

هذه تسمى (خدعة المرايا).. التي يكون فيها الخصم في مرآة واحدة، بينما بقية المرايا مجرد وهم، وصاحب الوعي هو من يستطيع التفريق بين الحقيقة والانعكاس.. بين رأس الأخطبوط وأذرعه.

 

أما الذي لا يدرك العلاقة بين الرأس والذراع، فسينتهي نهاية مأساوية..

 

ولأنّ الدولة العميقة تقوم على ( الباطنية) و( الإيهام)، فإنها تعمد إلى صناعة أذرع من غير لونها، من إسلاميين وغيرهم، ليكونوا (مخلب قط) و(طابورا خامسا) حسب تعبير (فرانكو)..

 

بعد هذا كله، يجب أن نفهم أنّ هناك استنفارا كبيرا في صفوف الدولة العميقة وسراديبها.. وسنرى في الأيام استهدافا إعلاميا ضد الكثير من رموز الوعي، لإسقاطهم وتحييدهم.. كما سنرى محاولات للتظاهر بالمَلاسة من طرف قنفذ الدولة العميقة.. وليس في القنافذ أملس.. وكما قفز من سفينة العصابة الكثير، ليركبوا الحراك، فسيقفز من سفينة الدولة العميقة كثيرون، الآن، وبعد سنة، وبعد خمس سنوات..

 

أمس سمعت أحدهم يقول: (لا تراجع حتى إذا سقطت الباءات الثلاث).. وهنا نطرح سؤالا: (ما هو سقف المطالب بالضبط ؟ وما هو الهدف الأبعد؟)..

 

لذلك، فالدولة العميقة ليست مهتمة بمن يسقط، بل بمن يأتي..

 

ليست مهتمة بسقوط بدوي، ولكن بمن يكون بدله..

 

وليست مهتمة بإسقاط بن صالح، بل بأن يكون الذي يخلفه خادما لمشروعها..

 

ولو سقطت كل المسئولين في كل المؤسسات، ولم يخلفهم أشخاص تزكيهم الدولة العميقة، لما رضيت بذلك..ولاستمرّت مطالبها..

 

ولا أزال أكرّر أنّ الجيش سيرتكب أكبر أخطائه في حق هذه البلاد لو أنه أخرج الحل من دائرته الدستورية، لأن كل شيء سيبدأ حينها..

 

والأهمّ في الموضوع، أن نفهم أنّه لا أمان لثعبان..

 

فدع عينك حديدا.. ودع مخلبك متحفزا..