ودعت ليبيا علما من أعلامها، ومدرسة عظيمة من مدارس القرآن، فضيلة الشيخ معتوق محمد العماري، رحمه الله، وهذا نص ترجمة الشيخ التي خطها فضيلة الدكتور محمد خليل الزروق في حق شيخه، وشيخ مشايخ قراء برقة إنا لله وإنا إليه راجعون، رحم الله شيخنا وجعل منزلته في عليين، وشفع فيه القرآن وسيد المرسلين

الشيخ محمد معتوق العماري
الشيخ محمد معتوق العماري
يقول الشيخ الزروق حفظه الله:

هذه كلمة كتبتها في ترجمة شيخنا الشيخ معتوق العماري -فسح الله في مدته!- اعترافًا بفضله، ونشرًا لمحاسنه، واقتداء بالسلف في تعريفهم بالشيوخ، وعنايتهم بتراجم الرجال، وذلك من مزايا الأمة الإسلامية، أمة السَّنَد، وقد علّمها الله وألهمها أن تحفظ تواريخ رجال علمها؛ لأن في ذلك حفظَ دينها، من كتاب ربها، وسنة نبيها – صلى الله عليه وسلم – فنشأ علم من أدق العلوم، هو علم الرواية وتواريخ الرجال، وهو معدود في مفاخر الحضارة الإسلامية؛ لأنه ليس لأمة من الأمم من ضبط أسانيد النقل ما لنا.

نسبه ومولده ودراسته ومشيخته:

فأقول: هو الشيخ المبارك، والأستاذ الجليل: معتوق محمد علي الأبْيَض، العَمَّاري، من أولاد محمد، من قبيلة العمامرة، ولد سنة 1924=1342 ببلدة قرب “الخمس”، (هذا ما هو في الأوراق الرسمية، وأخبرني أنه ولد سنة 1919) وختم القرآن الكريم في زاوية في ” العمامرة “، وانتقل إلى زاوية “الدوكالي” في “مسلاتة”، وكان المعلم فيها آنذاك الشيخ منصور السنوسي، ثم انتقل إلى زاوية الشيخ عبد السلام في “زليتن”، وكان المدرس فيها الشيخ مختار جوان. ومن زملائه في زاوية الشيخ الأستاذ الشيخ فرج بن سليم (شيخنا وأستاذنا، توفي يوم 23 من جمادى الآخرة 1425=9/8/2004، رحمه الله رحمة واسعة!)، والأستاذ الشيخ أحمد بو عزة – رحمهما الله! – وكان مما درَسه في زواية الشيخ المتن المعروف في النحو “الآجُرُّومِيَّة”، وهو يحفظ هذا المتن، ويذكر للطلاب بعض عباراته، والكتاب المعروف في الفقه “حاشية الصَّفْتي” على شرح “العشماوية”، وأخبرني بعض من أخذ عن الشيخ أنه أخبره أنه درَّسه في “البَيَّاضة” مرات.

نزوله برقة وابتداؤه التعليم:

وترك زاوية الشيخ سنة 1949، ومن ههنا بدأ يعلّم القرآن، فقد مضى له إلى أيامنا هذه قريب من خمسين سنة يعلمه (هذا بحسب تاريخ كتابة هذه الكلمة، وأما إلى أيامنا هذه فنحو ستين سنة). فنَزَل برقة، وعلّم القرآن في النجوع مدة، ثم انتقل للتدريس في زاوية “ميراد مسعود” شرقيَّ “البَيَّاضة”، وبقي فيها أربع سنوات، ثم انتقل إلى “مَسّة”، فأقرأ القرآن في مسجد فيها قريبًا من ثلاث سنوات، ثم جاء ” البَيَّاضة ” سنة 1956، فبقي مدرِّسًا للقرآن فيها وإمامًا وخطيبًا ما يقرب من خمس عشرة سنة، وكثيرًا ما يذكر أنه لم يُتِمَّ القرآن عليه فيها أحد، ولكنهم كانوا يأخذون قدرًا ثم يتركون الأخذ، وكان يأسف على ذلك. وذكر لي بعض الطلاب أنه كان يتمنى في تلك المدة أن يحفظ القرآن تامًّا عنده طالب واحد!

استقراره في بنغازي وطلابه:

ثم نزل “بنغازي” سنة 1970 بعد أن أتم بناء بيته المعروف في شارع متفرع من “شارع عشرين”، واستقر فيها، وتولّى التعليم والإمامة والخطابة في مسجد ” بُوغُولة ” (من مساجد بنغازي القديمة، تأسيسه سنة 1332=1914، ثم جُدّد بعد ذلك) في “الْبِرْكة” في شارع “بن شتوان”، المسمى الآن مسجد “قيس بن سعد”. وختم عليه القرآن إلى هذا اليوم ما يزيد على أربعين طالبًا (هم اليوم أكثر من هذا بكثير جدًّا)، أكثر معلمي القرآن في بنغازي منهم أو من تلاميذهم، بل من تلاميذ تلاميذهم، فهو كما قيل بحق: شيخ المشايخ. ومنهم ابنه عبد الحميد، وله ابنة أيضًا تحفظ القرآن وتُعلّمه. هذا غير كثيرين جدًّا لم يُتمُّوه. وممن أخذ عنه طلاب من غير بنغازي، من “مصْرَاتة” و”بن جَوّاد” و”مْسَلاَّتة” و”سَبْها”، وغيرها، وهؤلاء من طلاب القسم الداخلي لجامعة قاريونس، وطلاب غير ليبيين من السودان ومن تشاد.

ما بَـلَوْت من خُـلُـقه وسَمْـته:

وقد عرفته منذ ما يقرب من اثنتي عشرة سنة (أكثر من أربع وعشرين سنة الآن، سنة 2009)، وختمت القرآن عليه مرتين (كتابةً في اللوح بإملائه وعَرْضًا عليه مرة، وكتابةً من حفظي وعرضًا عليه مرة أخرى تنقص خمسة أحزاب)، وأصهرت إليه، فوجدته كريم الطباع، دَمِث الخلُق، خفيف الروح، سخيًّا مضيافًا، لا يَضَنُّ بإفادة طالب، يملي القرآن في الليل والنهار، وفي يوم الجمعة، ويصغي لمن يقرأ عليه، ويصحح الألواح، ويتقن رسم القرآن، يكاد لا يفوته في رسمه حرف على اختيار الإمام الداني والطريقة الشائعة في الضبط، ولا يتشدّد في مسائل الخلاف رسمًا ورواية.

أكثر وقته في المسجد، وقد مرّ عليه زمن كان يكون في المسجد من الفجر إلى العشاء، لا ينقلب إلى بيته إلا في الظهيرة ليقيل. كثير التلاوة، ربما ختم القرآن في شهر رمضان في يوم أو يومين، وقد أدركته وهو يصلي التراويح وحده.

يفاكه في المجلس، ويذكر أيام دراسته القديمة، ونوادر ما وقع له، ويمازح جلساءه. صاحب كلمة مُعْجِبة، وجواب حاضر، وما زال الطلاب يتندرون بذكر ما سمعوا من كلماته، وما يقع لهم معه. لا يحب أن يفتي، ويرسل السائل إلى غيره من الشيوخ، ويحب أن يستفتي، وربما سألني عن بعض مسائل العربية، بل عن بعض مسائل الفقه، فأستحيي.

يُنْزِل الناس منازلهم، فيوقّر الكبار ووجوه الناس، ويتساهل على كبار الطلاب ما لا يتساهل على صغارهم. يتغافل أحيانًا عن لهو الصغار ولعبهم، وربما اشترى لهم الخبز، وربما صنع ” الشَّرْمُولَة ” بيده، ودعا من حضر من الطلاب، وربما اشتد أحيانًا فعاقب العقاب الأليم. وأخبرني بعض الطلاب أنه أولَ ما جاء المسجد أراد أن يعلمهم صنع الْمِدَاد الذي يُكتَب به من الْوَذَح، فسها فأمسك بالإناء على النار فآلمه.

يسأل الطالب الجديد عن اسمه وقبيلته ودراسته، ويمازحه، كأن يقول له: إن كنت تحتمل “الفَلْقَة” قبلناك، وربما أظهر له أنه لا يقبله، فإذا بلغ باب الخلوة ناداه. يذم الطالب الذي يتنقّل من شيخ إلى شيخ ولا يثبت في مكان، ولا يحب أن يأخذ الطالب مع القرآن شيئًا؛ لأن ذلك يشغله. ولا يحب أن ينظر الطالب في المصحف؛ لأن اعتياد ذلك يُضعف الحفظ، وهذا أمر مجرَّب، وعلة ذلك أن مَحْوَ اللوح يُؤْيِس من إعادة النظر فيه، فتَمْرُن الذاكرة وتعتاد القوة، وهذا يجري في كل ملكات النفس، وقوى الجسم، وإن ركن الطالب إلى أنه سينظر في المصحف اعتادت الذاكرة الكسل وضعفت، والصواب أن يسأل عما يشتبه عليه، ويأخذه سماعًا.

قراءتي عليه:

وأذكر أني جئت إليه أول ما جئت (كان ذلك نحو سنة 1985 أو 1986) بعد أن قضى صلاة العصر، فكلّمته، فسألني عن اسمي ولم يدقق، فكأنه عرف والدي، وسألني: على من قرأت؟ فذكرت له شيخنا الشيخ الحسين الفطماني – حفظه الله – وكنت أخذت عنه في مدرسة زيد بن ثابت القرآنية، فهز رأسه كما يفعل العارف، وأخبرني من بعد أنه عرف الشيخ الحسين في زاوية الشيخ، وأن الشيخ الحسين أصغر منه سنًّا.

وأذكر أني كنت أصلي معه صلاة الصبح، فإذا قضى الصلاة أخرج لي مفتاح الخلوة لأخلو بِلَوْحي للتلاوة فيه، ويأخذ هو في قراءة الوظيفة الزروقية، وهذا من الفقه العميق، وهو أن حفظ القرآن خير لي. والوظيفة الزروقية أذكار للصباح والمساء وضعها الشيخ أحمد زَرُّوق – رحمه الله! – أكثرها من آيات وأحاديث صحيحة، والشيخ معتوق لا يكاد يترك هذه الوظيفة بعد صلاة الصبح. وأذكر أنه أعطاني نسخة مطبوعة منها لأنقلها، فنقلتها.

وأذكر أني كتبت في لوحي مرة أول البقرة وتركت كتابة الفاتحة، فلما أخذ اللوح ليصحِّحه لم يقل شيئًا، وكتب الفاتحة في سطر قبل أول البقرة، ففهمت أن هذا من الفقه المتوارث أيضًا، وهو أن كل شيء من القرآن لا بد أن يؤخذ بالتلقي، وأنه لا يجوز إسقاط شيء منه فيؤخذ بغير مشافهة وكتابة في اللوح، ولو كان فاتحة الكتاب التي يحفظها كل أحد.

خاتمة:

ولا يزال أهل بنغازي يعرفون للشيخ معتوق فضله وسابقته في تعليم القرآن في هذه المدينة. وإني لأدعو له أن يطيل الله عمره، ويبارك عمله، وأن يجزيه عني وعن كل من أخذ عنه حرفًا من القرآن خير الجزاء، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته، إنه سميع الدعاء.

وكتب أبو بشر محمد خليل الزَّرُّوق في بنغازي -حرسها الله!- لأربع ليال خلون من شهر شوال من شهور سنة ثمان عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية (1/2/1998).