نجيب بلحيمر
Latest posts by نجيب بلحيمر (see all)

مرة أخرى يثبت النظام الجزائري فقدانه للأهلية والقدرة على التكيف، فقد جاءت الاستجابة للمطالب الشعبية الواضحة بإنهاء حكم الجماعات الخفية، وإنهاء سلطة الفساد، ووقف التدمير المنهجي للدولة، وهي كلها مطالب تختزل في رفض العهدة الخامسة، جاءت الاستجابة مشوهة وتنطوي على كثير من الاحتقار للشعب الجزائري ولذكائه رغم كل ما أظهرته المسيرات السلمية من وعي بعمق الأزمة التي وضع النظام البلاد فيها.

 

لا تستحق الرسالة المنسوبة إلى بوتفليقة، التي تضمنت القرارات التي كان يترقبها الجزائريون، أي تحليل أو دراسة، فهي تكرار للوعود التي قدمتها رسالة ترشيح بوتفليقية غيابيا والتي قرأها مدير حملته الانتخابية عبد الغني زعلان، بما يعني انها تمرير لوعود انتخابية دون انتخابات.

 

أسوأ من هذا أظهر اختيار وزير الداخلية نور الدين بدوي كخليفة لأحمد أويحيى في منصب الوزير الأول، أن الجماعة الحاكمة لا تقبل حتى بالتنازلات البسيطة، فالرجل يمثل الإدارة التي جمعت بطريقة مشبوهة ستة ملايين توقيع لصالح ترشيح بوتفليقة، وهو أيضا الذي كان سيشرف على تنظيم الانتخابات التي كان يراد لها أن تمرر العهدة الخامسة، وفوق هذا كله هو الذي حول كل وسائل الدولة، من خلال تجنيد الولاة على المستويات المحلية، إلى أدوات لخدمة بوتفليقة والجماعة الحاكمة، ولعب دورا حاسما في ترسيخ تلك السلوكات المشينة لتمجيد شخص بوتفليقة وتأليهه.

 

يظهر تعيين بدوي حرص الجماعة الحاكمة على إحكام قبضتها على العملية التي تعد بإطلاقها قريبا، والمتمثلة في تلك الندوة الوطنية التي ستفتقد إلى أي شرعية لمباشرة التأسيس الذي يعتبر عملا شاقا وحساسا يتطلب حماية مباشرة من الشعب من خلال انتخاب مجلس تأسيسي، ثم إن هذا الخيار يؤكد الطابع الأمني والتسلطي للنظام الجزائري الذي لا يعرف إلا الاعتماد على الأجهزة الأمنية في السيطرة على المجتمع وفرض الخيارات عليه.

 

في مقابل هذا تم إقحام رمطان لعمامرة، وهو دبلوماسي مساند للعهدة الخامسة لا يعرف وضع الجزائر ولم يسبق له التعامل مع مشاكلها، وأسند له منصب نائب وزير أول، وهو منصب لا مبرر لاستحداثه إلا محاولة خداع الشعب بالبحث عن عذرية أو نظافة مزعومة في واجهة نظام اختزله المتظاهرون في شعار بسيط “كليتو لبلاد يا السراقين”، ويمثل وضع لعمامرة في الصف الثاني مرة أخرى إشارة إلى أن هذا الشخص الذي قدمته الصحافة ككفاءة، هو مجرد وجه يراد له أن يلمع واجهة تلطخت بالفساد والرداءة، وفي أحسن الأحوال قد يتم رفعه إلى منصب وزير أول في حال ما إذا فشل بدوي أو أثار غضب الناس.

 

لا جديد تحت الشمس، نحن أمام تمديد صريح للوضع القائم، حيث يبقى بوتفليقة في مكانه رئيسا مدى الحياة، وتتولى الجماعة الحاكمة إعادة ترميم واجهة النظام بإجراءات شكلية، وهذا الأمر سيكون بوسع الشعب الجزائري إدراكه دون أدنى صعوبة، لكن الدروس المستفادة من هذه الاستجابة كبيرة جدا وتفرض علينا قراءة أكثر عمقا للوضع القائم.

 

نحن الآن أمام نظام غير قادر على قراءة الواقع بشكل صحيح، فهو يعتمد نفس القراءة السابقة لموازين القوى، إذ يرى بأن الشارع الذي تحرك بذلك الزخم، وأظهر عزيمة لا تلين خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، لا يمكن أن تكون له بدائل واضحة، وفي ظل افتقاده لقيادة معروفة سيتشتت من خلال قراءات متناقضة لرد فعل السلطة، ثم إنه لن يكون بمقدوره أن يواصل في مساره لوقت طويل.

 

والحقيقة أن هذه القراءة تؤكد انقطاع الجماعة الحاكمة عن المجتمع، فقد تم تفسير مطلب الرحيل على أنه يخص أويحيى وبعض الوجوه، في حين أن الذي جرى يؤكد رفض نمط الحكم القائم، وعندما صدحت الحناجر بشعار “ما كانش الرايس كاين تصويرة ” إنما كانت تؤكد بأنها ثارت ضد الحكم الخفي، لكن الجماعة التي تقف خلف بوتفليقة وتستعمل صورته، وتقرر في مكانه لم تفهم شيئا، فأخرجته مرة أخرى في حالة يرثى لها ليقول جملة من أغرب ما يمكن أن يسجله التاريخ عن رئيس دولة ” حالتي الصحية و سِنّي لا يتيحان لي سوى أن أؤدي الواجب الأخير تجاه الشعب الجزائري، ألا و هو العمل على إرساء أسُس جمهورية جديدة” وفضلا عن كون الجملة تحمل تناقضا صارخا بين ثقل المهمة والاعتراف بالضعف الصحي، فإنها تؤكد الاستخفاف بالمهمة أصلا، وهذا يكفي دليلا على أن كل ما تم تقديمه من وعود هو مجرد مناورة لربح الوقت لا علاقة لها ببناء الدولة، وهي تؤكد مرة أخرى على أن النظام الجزائري، وبوتفليقة من أبرز وجوهه، لا يزال رهين منطق السلطة بعيدا عن منطق الدولة، حيث يتم التعامل مع المآزق التاريخية على أنها مجرد أزمات عابرة يمكن تجاوزها من خلال مناورات سلطوية يجري من خلالها إعادة ترتيب بعض التفاصيل وتلميع الواجهة.

 

السؤال الكبير الآن هو ما الذي يمكن أن تفضي إليه هذه الخطة في حال تمريرها بالخداع أو بالقوة؟ الإجابة على هذا السؤال تمر حتما عبر الإقرار بأن الأزمة التي نعيشها اليوم هي أزمة تتعلق ببنية نظام الحكم، ولا يمكن حلها دون إعادة البناء على أسس جديدة، والالتفاف عليها بمناورة سلطوية من قبيل ما تقدمه القرارات المعلنة اليوم، سيؤدي إلى ترحيل الأزمة إلى فترة زمنية لاحقة بكل ما يعنيه ذلك من مضاعفة المخاطر والأثمان التي سيتوجب علينا دفعها في المستقبل مقابل حل حقيقي.

 

لقد قدم الحراك الشعبي فرصة تاريخية للجزائر من أجل إنجاز تحول سلس وآمن، غير أن النظام الذي فقد كل قدرة على التكيف لا يدرك هذه الفرصة، وهو اليوم مصر على إهدار هذه الفرصة مع ما يمثله ذلك من مخاطر على مستقبل البلاد ووحدة شعبها خاصة.

 

لقد تم إقحام صور بوتفليقة وهو يستقبل قايد صالح من أجل بعث رسالة إلى الجزائريين مفادها أن الجماعة متماسكة، وأن مركز الثقل فيها لا يزال على التزامه بوعوده تجاه الرئيس الذي استمر في منصبه بطريقة غير شرعية منذ ست سنوات، وهو عازم على إبقائه في هذا المنصب ما دام حيا.

 

بقي للمعارضة التي روجت لخيار تأجيل الانتخابات أن تفهم بأنها خسرت الشارع ولم تنل احترام السلطة أو حتى عطفها، وسيسجل التاريخ انها ساهمت، عن وعي أو عن جهل، في مسعى إجهاض فرصة تاريخية لبناء الجزائر التي ضحى من أجلها الشهداء، جزائر تستحق أن نخرج الجمعة القادمة إلى الشوارع كما فعلنا في الأسابيع الثلاثة الأخيرة لنثبت أن الشعب الجزائري لم يخرج ليحتفل ويغني، بل خرج مدافعا عن كرامته، وعازما على العبور إلى عصر الشعوب الحرة.

من نجيب بلحيمر

إعلامي جزائري