د. صلاح الصاوي

سُئِلْتُ حول تعزية بعض الإسلاميين في قاسم سليماني فقد كثر في هذا الصدد اللغط والغلط!

 

فأجبتُ: إننا نتفهم اضطراب الموقف تجاه مقتل سليماني، فهو من جهة السيف المسلط على أهل السنة في الشام والعراق، وهو من جهة أخرى من قدم شيئا من الدعم لقضية فلسطين، ولهذا كان من الطبيعي أن يفرح بهلاكه فريق من المؤمنين، وأن يدين قتله ويعزي فيه فريق آخر!

 

نتفهم أن يستشعر ضحايا المحرقة التي أشعل سليماني ومن وراءه نيرانها لأهل السنة في الشام والعراق فرحًا تلقائيا لهلاكه، وأن يحتفوا بمقتله، وهو شعور يداهم أصحابه قبل التفكير في الملاءمات السياسية والحسابات العسكرية.

 

ونتفهم موقف آخرين في إدانة قتله والتعزية بهلاكه، فلقد استثمر سليماني ومن وراءه الفراغ الذي تعيشه قضية فلسطين، وتواطؤ الأشقاء على خذلانها، ومشايعة خصومها عليها، فقدم ما قدم من الدعم، وهم معذورن في قبوله، وقد تنكر الأشقاء، وشايعوا الاعداء! ولا يملكون اليوم إلا إدانة قتله والتعزية في هلاكه! ولا يظهر حرج تحت وطأة الاضطرار في الاستفادة من الظلمة وعتاة المبتدعة، لا سيما إذا كانت المعركة ضد عدو لا ينبغي أن يختلف في عداوته، لكن بشرط ألا تنعكس المصالح على المبادئ بالوهن والاختلال.

 

وإن كان من لوم فإنما يتوجه إلى الأنظمة العربية والإسلامية التي حملت أهل فلسطين على قبول الإعانة ممن ولغ بنهم ولا يزال في دماء إخوانهم في الشام وفي العراق!

 

إذا نظرنا إلى هذه القضية في الفضاءات البحتة فلا حرج في شكر الكافر أو الظالم إذا أسدى إليك معروفًا؛ ولا حرج في الدعاء له وهو في مقام الإحسان إليك، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس قال: لو قال لي فرعون: بارك الله فيك قلت: وفيك، وفرعون قد مات” صححه الألباني.

 

ويجوز الدعاء له؛ بالهداية والمنافع الدنيوية، وقد عقد البخاري في صحيحه باب: الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم. وعقد في الأدب المفرد باب: كيف يدعو للذمي؟ أسند فيه عن عقبة بن عامر الجهني: أنه مر برجل هيئته هيئة مسلم، فسلم فرد عليه: وعليك ورحمة الله وبركاته. فقال له الغلام: إنه نصراني! فقام عقبة فتبعه حتى أدركه. فقال: “إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين، لكن أطال الله حياتك، وأكثر مالك، وولدك”. وحسنه الألباني.

 

وقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن إبراهيم قال: جَاءَ يَهُودِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِي، فَقَالَ: كَثَّرَ اللَّهُ مَالَك وَوَلَدَك وَأَصَحَّ جِسْمَك وَأَطَالَ عُمْرَك.

 

وروى أيضًا بسنده عن قَتَادَةَ أَنَّ يَهُودِيًّا حَلَبَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةً فَقَالَ: اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ، فَاسْوَدَّ شَعْرُهُ، وروي أنه عاش إلى السبعين وقد متع بالسواد

 

ولعل من الفقه الذي لا ينبغي أن يغيب في هذه التشابكات الحرجة أن يتكامل الموقف الدعوي مع الموقف السياسي، ففي الوقت الذي يعالج فيه الساسة شئون المصالح، ويستجلبون منها أقصى ما يمكن استجلابه، ويستدفعون من المفاسد أقصى ما يمكن استدفاعه بالضوابط الشرعية، فإن الموقف العقدي والدعوي ينبغي أن ينحاز إلى المبادئ، ويعض عليها بالنواجز، حتى لا نلبس على الناس دينهم ونفسده عليهم! وحتى لا يختل ميزان الاعتقاد تحت وطأة الحاجات أو الضرورات

 

ولعلها فرصة أن يتداعي أهل الحل والعقد من وجهاء العمل الإسلامي ومقدميه إلى وحدة موقف نتجاوز به دسائس خصومنا ومكائد أعدائنا، وإلى أن يتهيا ذلك فلا أقل من تفهم مواقف الآخرين، وبسط العذر لهم ولو إلى حين!

من د. صلاح الصاوي

الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة ورئيس الجامعة الإسلامية بأمريكا «مشكاة»