د. أبو يعرب المرزوقي

على كل البلاد التي كانت مستعمرة أن تقوم بنفس العمل لاسترجاع آلاف الجماجم في متاحف أوروبا.. هذا غير المقابر الجماعية في ترهونة وطرابلس وفي العراق وسوريا واليمن.

الجزائر تستعيد رفات 24 مقاوما ضد الاستعمار الفرنسي

لما حاول نيتشة تعريف مفهوم التاريخ ذكر له ثلاثة معان في كتابه Unzeitgemässe Betrachtungen:

1- التاريخ المتحفي 2- والتاريخ المعلمي 3- والتاريخ النقدي.

واعتبر الأخير هو الوحيد الدال على معنى الحياة لأنه فعل التاريخ الذي يهزأ من المتحفي ليميز منه المعلمي من حيث دلالته على القلة صانعة الحياة في رؤيته.

 

ومناسبة استعادة الجزائر لرفات شهدائها اعتبرها فرصة للنظر في ما يضعه الغرب في المتحفي ليحتفي بالميت من الحياة وفي المعلمي و في النقدي من التاريخ حتى نفهم أن نيتشة لا يختلف كثيرا عن الرؤية الغربية العامة.

 

فرؤيته ليست ثورية تتجاوز ثقافة الغرب الاستعماري والعنصري بل هي تندرج فيه وهي تعبير أكثر وضوحا عن التوحش الغربي عامة والفرنسي خاصة لأن نيتشه كان شديد الاعجاب بثقافة فرنسا وخاصة في هذه التأملات.

 

فعلام تحتوي المتاحف في الغرب عامة وفي فرنسا خاصة وهي التي يعتبرها نيتشة رمز الثقافة الغربية لأنها صاحبة الأساليب الراقية في رؤيته؟

 

محتوى المتاحف الغربية مخمسة الأبعاد.

 

وهي كلها تخليد لجرائم الإنسان الغربي وليست دالة على الموقف الذي يتوهم الكثير أن نيتشه يختلف به عن ثقافة عصره.

 

فهي ليست دالة على موت صاحب المتحف وعيشه في الماضي بل هي دالة على استمتاع الحضارة صاحبة المتحف بساديتها وجرائمها الخمسة التالية بدءا بأبشعها فنازلا:

 

1- فأبشع المتاحف هو الذي رأيناه في حالة شهداء الجزائر: المحافظة على جماجم ضحايا الغزوات الاستعمارية. ويسمونه «متحف الإنسان». وهو يعني متحف “المجرم عديم الإنسانية”.

 

2- يليه متحف تراث الشعوب المغزوة تراثها المادي الذي يسرقونه ليزينوا به متاحفهم ويستغلوه لاستجلاب السياح لكأنهم من رعاة تراث البشرية المادي فيصبح السارق مستثمرا في سرقاته وكأنه في خدمتها وهو يستخدمها للمزيد من شرب دم ضحاياه.

 

3- يليه متحف تراث الشعوب الفكري ولغاتهم ومؤلفاتهم في كل الفنون والعلوم يسرقونها ويتاجرون فيها بعد قتلها وقتل أصحابها وكأنها ملك لهم وهي في الحقيقة من أملاك الشعوب التي استعمروها أو افنوها ولم يبقوا منها إلا ما يمكنهم من استثمار جهودهم واجتهاداتهم.

 

4-يليه متحف الحيوانات التي أفنوها ولم يبقوا منها إلا هياكلها العظمية حتى وإن كان بعضها مما أفنته الطبيعة ووجدوه في الإحاثيات لكن الأكثرية منها هم من افنوها وخاصة التي جعلوا جلودها وفروها وقرونها العاجية مادة لصناعاتهم التجميلية.

 

5-وأخيرا متحف النباتات التي قضوا عليها والتي لم يبقوا منها إلى عينيات مجففة. وحتى إذا استنبتوا بعضها ففعلهم من جنس ما تفعل إمارات الأعراب الأجلاف من عملاء إسرائيل وإيران الذين يسرقون نباتات سقطرة واليمن ليزينوا بها صحاراهم وتحضرهم القشري.

 

ويبقى النوع الأول هو الأبشع وهو لب الأربعة الباقية وحقيقتها لأن غاية اللا إنسانية في الحضارة الغربية والتي يريد عملاؤهم من أعشار المثقفين أن يبرؤوهم منها بقيس الفتح الإسلامي على الغزو الاستعماري.

 

فالفتح الإسلامي للمغرب أو لشمال أفريقيا كلها من مصر إلى المحيط الأطلسي لا يذكر التاريخ أنها أفنت شعبا أو قتلت لغة أو هدمت تراثا ماديا أو تراثا لا ماديا أو استعبدت شعبا ففرضت عليه التخلي عن لغته أو عن ثقافته.

 

بل إن كبرى قبائل المغرب صارت دولا بل وإمبراطوريات بعد أن حررها الفتح من الغزو الروماني قبل المسيحية وبعدها والغزو البيزنطي والوندالي.

 

اقرأ ايضًا:

«رضا بودراع»: جماجم الشهداء أعادت الهوية الأصيلة للشعب الجزائري

«رضا بودراع»: هذه هي رسالة الاستعمار على جماجم الأحرار!

 

ونفس ما يقال عن المغرب يقال عن المشرق ولعل أكبر الأدلة هو أن كل الطوائف والمذاهب التي عرفتها الأديان السابقة على الإسلام لم يبق لها وجود إلا في أرض الإسلام الأديان بنوعيها منزلها وطبيعيها ولم يبدأ المساس بها إلا مع الصليبيات الاسترداديات ثم بعد الغزو الاستعماري الغربي للشرق.

 

وحتى يهود أوروبا فإنهم لم يجدوا ملجأ عندما بدأت حروب الاسترداد في أفنائهم مع المسلمين في كل ما كانت تابعا للإسلام من أوروبا سواء في الأندلس أو في جنوب إيطاليا أو في جزر الأبيض المتوسط أو حديثا في البلقان فإن الملجأ الوحيد لهم كان بلاد الإسلام.

 

لكنك تجد اليوم من بين أحفاد الحركيين والصبايحية من يكلمك على الخلافة الإسلامية التي كانت بقيادة عربية أو بقيادة تركية بأنها هي الاستعمار وليس الاحتلال الروماني ولا البيزنطي ولا الوندالي ولا الاسباني ولا الفرنسي.

 

لكننا رأينا اليوم في الجزائر الأبية بعد أن استرد شعبها رفاة أبطاله ومعه ثورته من الحركيين عملاء فرنسا وأصبح للحراك معنى التواصل مع ثورة الشعب الجزائري من 1830 إلى اليوم.

 

تلك هي المناسبة التي فكرتني في خداع نيتشة الذي يتصوره الكثير ناقدا للرؤية الغربية للتاريخ ومن ثم مختلفا عن رؤية هيجل وماركس اللذين كانا شديدي التأييد لغزو فرنسا للجزائر لأنها “تحضر” من هم دون منزلة الإنسان الغربي.

 

فما هو التاريخ المعلمي عنده إذن؟

 

إنها هذه الجرائم التي يحتفى بها بوصفها بطولات.

 

وما التاريخ النقدي الذي يعتبره في خدمة الحياة؟

 

إنه تماما ما يعنيه هيجل بفعل التجاوز الذي يجعل الخالف يستمد حياته من شرب دم السالف بدعوى أن المفيد للحياة هو الروح الغالب الذي يفني الروح المغلوب ويأخذ ما فيه من حياة.

 

وهو عين ما فعل الاستعمار والاجرام الاستعماري لا يجمله الكلام على الأنسان الكامل والأرفع فهو في الحقيقة الإنسان الناكص للوحشية الحيوانية.

 

مناسبة استرداد الجزائر لرفات شهدائها لا تعنيني من حيث دلالتها عن الماضي بل من حيث ما ينبغي أن تعنيه عن دور حديث الماضي وفي حديث المستقبل.

 

ما يعنيه هو تجاوز أحداث الماضي بأحداث المستقبل.

 

ما يعنيه هو دلالة ذلك على لحظة الوعي الحاضر في الشعب الجزائري الذي اعتبره اليوم قد حدد معنى الحراك العميق وتمكن من الشروع في جبر كسوره والتغلب على ما كان يسعى إليه الاستعمار وعملاؤه من تفتيت الشعب الجزائري بجعله ينسى تضحيات أجداده وآبائه.

 

لن يستطيع أحد بعد اليوم أن يفرض على الجزائر التبعية لفرنسا. وفي ذلك سبقت الجزائر أو هي أدركت معنى سبقها في الربيع الذي قتلته فرنسا بعشر سنين سوداء قتل فيها عملاء فرنسا ربع مليون شهيد سمتهم فرنسا الاستعمارية وعملائها إرهابيين

 

لأنهم كانوا مثل أجدادهم يقاومون الاحتلال الذي كان يتخفى تحت جزائرية قشرية من جنس من يتخفون اليوم تحت تونسية قشرية ويصفون أنفسهم بكونهم مشروع شهداء وهم الحقيقة واقع شهادة زور تخاتل الشعب مغدور.

 

ونفس الحركيين الذين يسمون صبايحية في تونس لا بد من هزيمتهم الفاصلة بنفس ما فعلت الجزائر اليوم:

 

فاستعادة رفاة المقاومين هي النهاية الرمزية الحاسمة للاستعمار الفرنسي.

 

اليوم هزمت فرنسا في الجزائر مباشرة

 

بعد هزيمتها في ليبيا

 

وستأتي هزيمتها في تونس رغم جريمة الاتفاقية الفرنكفونية:

 

وإيقاف هذا المشروع هو من الآن فصاعدا ما سأخصص له كل جهدي مع حربي على أعداء استعادة السيادة التونسية من عملاء فرنسا وإيران والثورة العربية المضادة بصفيها التابع لإسرائيل وفرنسا والتابع لإيران وروسيا.

 

اقرأ أيضًا:

أهداف فرنسا من إعادة جماجم المجاهدين

تفاصيل المفاوضات الجزائرية لاستعادة «جماجم شهداء المقاومة»

 

في السطور السابقة حاولت بيان الرؤية الغربية عامة ممثلة بهيجل وماركس إشارة وبنيتشة نصا في معاني التاريخ واليوم أريد أن أكتب في موقف الجزائر الرسمية. لأن مواقف الجزائر الشعبية لا يمكن أن يكون غير ما ينتظره أبناء الشهداء وأحفادهم. ومن ثم فليس عندي ما أضيفه: فلا أحد يمكن أن يزايد عليهم فيعلق على موقفهم الممثل ليس للجزائر وحدها بل للأمة كلها من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي.

 

ما ألمني حقا هو الثمن البخس الذي رضيت به الجزائر الرسمية بحيث صارت وكأنها هي التي تكفر عن ذنب بالدفع السريع: فرئيسها شكر ماكرون الذي يمثل في آن الصليبية والصهيونية وقدم هدية لا تقدر لفرنسا التي تنتظر من يؤيد موقف دميتنا مما يجري في ليبيا.

 

لم نسمع تبون يتكلم على انقلاب حفتر ولا على تدخلات فرنسا والإمارات ومصر والسعودية وخاصة روسيا – صديقة العسكراتية العربية التي لم ترث من الاستبداد السوفيتي إلا خردته التسليحية – سكت عن ذلك كله وتكلم على نهاية شرعية الحكومة التي شكلها الشعب الليبي بكل طيفه السياسي والمدني والبلدي في الصخيرات والانقلاب هو الذي حال دون استكمال المؤسسات.,

 

لكن الرئيس الذي لا شيء يثبت أنه أكثر شرعية من النظام القائم في ليبيا صار بنفس التعالي الرسمي التونسي يتعامل مع الليبيين وكأنهم بحاجة إلى شرعية قبلية في حين أن الجميع يعلم أن الشعب الليبي صمد ككل شعوب المغرب الكبير في التصدي للاستعمار.

 

واستقل قبلها جميعا وأسس ملكية دستورية قبل ثورة نوفمبر وكتبوا دستورا ديمقراطيا وعطل الاستفتاء عليه الجاسوس وعميل الاستخبارات حفتر. ونخبة ليبيا متنوعة لأنها لم تكن مثل نخبة بقية أهل المغرب مستعبدة من فرنسا.

 

فهم يتصورونها «أم الدنيا» ولا يرون غيرها حتى صاروا أحرص على نشر الفرنسية من أهلها في حين أنها في ذيل الغرب علما وفنا وثقافة وقوة عسكرية واقتصادية منذ هزائمها في الحربين العالميتين.

 

كنت أتصور أن تبون من جبهة التحرير فإذا بي أجده يتلهف على ترضية ماكرون تماما كما فعل قبله الرئيس العناق الذي قبّل كتفيه كأنه شيخه في «العلم» بعد أن أعلن أنه قرأ مؤلفاته التي لم يؤلفها وقرأ حتى ما قرأ بمعنى أنه يشاركه في المكتبة.

 

كنت أعتقد أن استجلاب جماجم المجاهدين التي كانت معروضة في متحف آكلي لحم البشر والذي يسمونه «متحف الإنسان» كان لغاية فضح توحش الاستعمار وهمجية الفرنسيين الذين لا يقلون بربرية عن غزاة امريكا الذين أبادوا الهنود الحمر فإذا بالأمر لم يتجاوز دفن الجماجم.

 

فالجزائر الرسمية وظفت هذه اللحظة ذات الجلالة التاريخية الكثيفة ليس لدفن الجماجم فحسب بل كذلك لدفن ما هو أهم بما تفيده لنشر غسيل فرنسا خلال استعمارها للجزائر استعمارا لم يكتف بخصائص الاستعمار الاستغلالي كالحال في الاستعمار الحديث.

 

بل هو كان استعمارا بحقد الصليبيين وببربرية الأهماج الذين غزوا أوروبا وأطاحوا بروما. فما فعلوه في الجزائر وتونس ومنذ الثورة في ليبيا وفي سوريا فوق كل تخيل والمقابر الجماعية في ترهونة شاهدة.

 

كنت أنتظر متحفا متنقلا للإشادة بـ«متحف الإنسان الفرنسي»: أن تعرض الجزائر جماجم شهدائها في جولة عالمية لتري للإنسانية كلها إنسانية المتاحف الفرنسية بدأ بعواصم الغرب كلها بما فيها باريس ثم بكل عواصم العالم خارج بلاد الغرب.

 

لا بد من درس حاسم للعنجهية الفرنسية وللإمبراطورية الأوروبية التي صارت مستعمرات روسية وأمريكية والتي غزت العالم بنفس الوحشية التي يمثلها متحف باريس للجماجم البشرية.

 

وإذا كانت الحكومة الجزائرية قد سارعت فدفنت الجماجم فإنها الآن كلها قد صورت في المتحف وفي نقلتها وفي مواراتها التراب ولنا الكثير من الأفلام عن الوحشية التي ما زالت بعض مشاهدها حية.

 

وما أنتظره من شباب الجزائر وخاصة من كان منهم في المهاجر أن يقوموا بهذا الواجب.

 

لا بد من سياسية المتحف المتنقل لـ«متحف الإنسان الفرنسي» حتى يعلم الجمع ما ينبغي أن يحول دون أي حاكم فرنسي ورفع رأسه ما لم يعتذر للشعوب ويعوضها ليس على ما نهبه فحسب بل على جرائمه التي هي جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.

 

ولا بد أن يتجول هذا المتحف في كل مدن العالم ومدن الجزائر وأقطار المغرب والإقليم والعالم.

 

ولن يكلف ذلك كثيرا فيكفي تكوين جمعية لتنظيم متحف متاحف العار والوحشية الفرنسية

 

ولا مانع من أن تقوم كل البلاد التي استعمرتها أوروبا بنفس العمل لأن عدد الجماجم بالآلاف في متاحفهم والجديد منها هو المقابر الجماعية وآخرها في ترهونة وطرابلس وفي العراق وسوريا واليمن.

من د. أبو يعرب المرزوقي

فيلسوف عربي تونسي