– إن الناظر للغرض من الأدب والفن في الإسلام يجد أنه محاولة جادة لإصلاح المجتمع وتطوير قيمه.. وليس تجسيد الواقع بما فيه من مفاسد.. كما تذهب إلى ذلك المدرسة الواقعية.

 

ولعل ما دفعني لاستحضار هذا المقال الذي كتبته قديما ذلك العبث الفني الذي يقدح في ثوابت الأمة ورموزها،مثل مسلسل (الاختيار) الذي يطعن في عقيدة المسلمين الثابتة من قضية خلق القرآن،والتي بذل إمامنا أحمد بن حنبل عمره ثمنا لرد فرية المعتزلة،يأتي هذا المسلسل في بلد الأزهر ليشوه العقيدة بأموال الشعب المسكين،ثم يطعن في شيوخ الإسلام ويتهمهم بالتطرف،ويتخذ من شيخ الإسلام ابن تيمية غرضا له.

 

ثم يأتي مسلسل (أم هارون)الذي يميع عقيدة الولاء والبراء مع المغتصبين الصهاينة،ويجعل من أصحاب الأرض ظالمين.

 

ومسلسل مخرج 7، وغيره، فأردت أن أؤكد على دور الفن الحقيقي في منظور الإسلام.

 

– الفن في نظر الإسلام:

 

– إن نظرة الإسلام للفن تختلف عن نظرات المذاهب الأخرى من شيوعية ورأسمالية ووجودية…الخ.

 

– فهذه المدارس ترى الفن غاية في نفسه.. لذلك تطلق نظريات من نوعية الفن للفن أو الفن للحياة.

 

– لقد طغى على الساحة مدارس كالواقعية والحداثة والتجريدية والتجريبية وما بعد الحداثة ولا ندري بماذا سيخرجون علينا غدا.

 

– الفن وسيلة وليس غاية:

 

– وهذا أمر نؤكد عليه كثيرا،فرغم اعتقادنا بأهمية الفن والأدب في النهوض بأمر الإسلام،إلا أن الفن والأدب يظلان وسيلة لتحقيق غاية عظمى.. فإذا قصرت الوسيلة عن تحقيق تلك الغاية أو خالفت ثوابت الشريعة فلنتجاوزها إلى غيرها.. ولا نمكث أسارى تلك الوسيلة أبد الدهر.

 

– ولذلك نحن نرفض بشدة مبدأ (ميكافيللي) الذي طرحه في كتابه الشهير (الأمير) الذي جر الويلات على الأمم والشعوب وهو مبدأ – الغاية تبرر الوسيلة – وهذا إن سلم به في المذاهب الأخرى، فلا ينبغي بحال أن يلقى قبولا في الإسلام..فلابد من شرعية الوسيلة مع شرعية الغاية.

 

– وفي هذا المعنى يقول الأستاذ: محمد قطب :  إن الفنان الجاهلي يرفع شعار (الفن للفن) وتحت هذا الشعار يعيث في الأرض فسادا ويسانده نقاد من جبلته وجمهور يبحث أصلا عن الفساد واللهو ولا يبحث عن الرفعة والاستقامة.. أفسده أولياء الشيطان من اليهود وزينوا له الهبوط بدعوى(التحرر) و(الانطلاق).

 

– والفنان المسلم غايته رفع الناس إلى المستوى اللائق بكرامة الإنسان الذي كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق…وهناك في الأزمان المعاصرة خاصة..فنانون(ملتزمون) لا يقبلون شعار(الفن للفن) ويستعيضون عنه بشعار وثني آخر(الفن للحياة)أي حياة؟ من الذي يقرر معاييرها ومبادئها؟

 

– والفنان المسلم لا يقبل شعار (الفن للفن) ولا يقبل كذلك شعار(الفن للحياة)بمفهومه الجاهلي المعاصر..أ.هــ (لا إله إلا الله- عقيدة وشريعة ومنهاج حياة).

 

– إنما الفن نشاط إنساني يقوم به أصحاب المواهب..غايته عبادة الله بالمعنى الواسع الشامل للعبادة الذي يشمل فيما يشمل – عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني- ومحاولة تغيير المنظومة القيمية للمجتمع بما يتوائم مع تحقيق سعادة البشر في الدارين.

 

– نماذج من الفن الراقي:

 

– قبل أن نذكر النماذج الفنية الراقية فلننظر إلى أسلوب القرآن في معالجة أصعب القضايا الشائكة.. فنجد القرآن يتكلم عن العلاقة الجنسية في أسلوب راق لا يخدش حياء ولا يهدم قيمة.. بل يبني ويعلي..فانظر – رحمك الله – في قوله تعالى:”نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم..”.

 

– كيف عالج تلك القضية الحرجة في أدب راق رفيع،وحقا ما قاله شيخنا الدكتور ناجح إبراهيم – حفظه الله – :إن هذه الآيات التي تناولت أكثر من قضية جنسية يقرأها الطفل فيفهم منها ما يتناسب مع سنه دون خدش لحياءه،وتقرأها المرأة دون خجل،ويقرأها الكبير والمتعلم والجاهل وكل يجد فيها ما يناسبه،دون جرح لأحاسيس أو اعتداء على حياء إنسان.

 

– وكذلك لو تأملنا قصة يوسف-عليه السلام – مع امرأة العزيز…إلخ.

 

– وقد وجد في عصرنا الحاضر نماذج مضيئة من الفن والأدب الراقي الذي نريد المزيد منه،فعل سبيل المثال:هل كان لقطز تلك المنزلة الرائعة هو وبيبرس ومن تصدى معهم للتتار إلا بسبب رائعة (علي أحمد باكثير)،(وإسلاماه) وإن كان عليها بعض الملاحظات التاريخية.

 

– وهل كان يسمع أحد بعمر المختار – رحمه الله- إلا بعد رائعة (مصطفى العقاد) التي خلدت ذكر هذا البطل المجاهد.. وأبكت عيون المسلمين وغير المسلمين،فتصوير التاريخ عن طريق هذه الأعمال –إن صدقت النوايا وتوفرت الإمكانيات- أعظم تأثيرا في النفوس من ألف كتاب.

 

– وهل ثارت حمية المسلمين على المجرم (سلمان رشدي)بعد روايته الشيطانية(آيات شيطانية)إلا بعد القصيدة الرائعة لأمير الشعراء في هذا العصر(فاروق جويدة) ،(في زمن الردة والبهتان)،ولا ينسى له قصيدته الرائعة عندما دخل (شارون) الحرم الإبراهيمي:

ارحل عن القدس واترك ساحة الحرم…هل يستوي الطهر يا خنزير بالرمم

 

– وهكذا.. وما زلنا ننتظر من مبدعينا الشرفاء أعمالا رائعة تصور بطولاتنا المعاصرة كحرب (العاشر من رمضان)..وصمود الشعب الفلسطيني وغيرها من أحداث الأمة.

 

– نماذج من العبث الرديء:

 

– وبعد أن طفنا في رياض الفن الراقي نتعرض آسفين لبعض نماذج من العفن الفني لكي يتضح الفارق والأثر الهدام على ثقافة الأمة وثوابتها..وبضدها تتميز الأشياء.

 

– فإليك نموذجا فجا من نماذج الواقعية والحداثة في الفن.

 

– وليمة لأعشاب البحر،للقصاص السوري(النصيري معتقدا،الشيوعي فكرا،حيدر حيدر).

 

– وقد تحدث فيها العلامة القرضاوي في خطبة الجمعة ( 15 صفر 1420 – 19/5/2000 ).

 

– وقد شنّ فضيلة العلامة د. يوسف القرضاوي وقتها  هجوما شديدا على وزارة الثقافة المصرية، على ما نشرته من رواية “وليمة لأعشاب البحر” لكاتب سوري، واستنكر ما بها، من منكر وتحقير وإهانة الذات الإلهية، والقرآن والرسول والقيم الدينية، وتحريضها على الخروج على الشريعة الإسلامية ، ونادى المسؤولين وقتها  أن يوقفوا هذه الموجة الثقافية الفاجرة عند حدها، وأن يعيدوا الثقافة عند حقيقتها، فلا يجوز أن نقسم الأمة، بين الثقافة الغربية المستغربة الصادة عن سبيل الله، والسائرة في ركاب الشيطان، والثقافة التي مع القيم الدينية، مع الله ورسله وكتابه ومع الربانيين، وشدّد فضيلته على أهمية وحدة الأمة، خاصة في هذا الزمان التعيس – حسب وصفه – الذي استغلته إسرائيل، وبغت فيه وطغت، فينبغي أن نضم صفوف الأمة بعضها إلى بعضها.

 

– وكان فضيلته قد بدأ خطبته، متحدثا عن انشغال الأمة بهمّ جديد، أضيف إلى همومها، هو الهم الثقافي، الذي بدأ بنشر وزارة الثقافة المصرية، لرواية تسمى وليمة لأعشاب البحر – معبراً عن استغرابه من العنوان – لكاتب سوري مغمور، أشهرته تلك الرواية شهرة كبيرة.

 

– وقال الشيخ وقتها : لم أشأ أن أتحدث عن تلك الرواية، حتى أراها و( الحكم على الشيء فرع عن تصوره )، كما قال علماؤنا، وقرأت ما يقارب نصفها، أغالب نفسي، فهي من أول صفحة، تقزّز نفس الإنسان المؤمن، وهي رواية، لا تعرف شيئا اسمه الحرام، ولا العيب، ولا تعرف الله، ولا تقدره حق قدره، ولا عجب، فقد كتبها إنسان نَصِيري العقيدة، شيوعي الفكرة.

 

– ثم ذكر فضيلته، أن عقيدة الإنسان الدينية والأيدلوجية، تنضح على فكره، وعلى كتابته وعلى أسلوبه، وكل ناء بالذي فيه ينضح.

 

– وأضاف: لكني سأتجاوز عن عقيدة الرجل الدينية والأيدلوجية، ونحاكم النص الذي كتبه : لم أستطع أن أستمر في قراءة الرواية، في أكثر من النصف، لقد بلغ الاشمئزاز مني مبلغه، فاكتفيت بتصفّح الباقي، وكلما تصفّحتها، وجدت أشياء وأشياء ينكرها الدين، وينكرها الخلق، والعقل والأعراف، كل ما فيها والعياذ بالله منكر، فوجدت فيها أكثر مما انتقد عليها الناقدون، في السطور وما بين السطور.

 

– المؤلف يرسم شخصياته:

 

– وبدأ د. القرضاوي، يرد على أصحاب الرأي الآخر، الذين وقفوا مع الكاتب فقال:

 

– “قالوا إن ما ذكره الكاتب جاء على ألسنة شخصيات الرواية”، وأقول نحن نعرف، أن الرواية قصة يتخيلها الكاتب، قد يكون لها أصل في الواقع، وقد لا يكون، هو الذي يرسم صورتها، مبدأها ونهايتها وعقدتها وحلها، وهو الذي ينشئ شخصياتها، ويُنطق هذه الشخصيات، بما يريد أن تنطق به، يعبّر عن نفسه، أو يعبّر عن هذه الأشخاص، ولو كان له فكرة معينة، فهو يجريها على لسان أحد الأشخاص، ويقوي هذه الفكرة، ثم يأتي الرد عليها من الطرف الآخر ضعيفا، أو لا يأتي رد عليها قط، هذه حيلة نجدها عند القصاصين والروائيين.

 

– وأضاف إذا كان من حق الإنسان، ألا يعري جسده أمام الجمهور: فهل من حقه أن يُعري أدبه، وفنه أمام الناس؟ إن العري الذي في هذه الرواية، عُريّ فضائحي بأهدافها وأسلوبها وكتابتها، أشدّ من العري الجسدي.

 

– هل من حق الإنسان المبدع، أن يتجرأ على الله، وعلى رسله، وعلى كتبه، وعلى اليوم الآخر، وعلى القيم والدين والأخلاق، كما يفعل هذا الكاتب؟ أيستطيع أن يقول ذلك لرئيس دولته، يتجرأ عليه، ويقول كذا وكذا، أم أن الدين والله والكتب والرسل، أصبحت الحائط الواطئ، التي يتجرأ عليها كل الناس.

 

– ورجع بالذاكرة إلى ما مضى، فقال: لقد رأينا كثيرا من القصاصين الكبار، يذكرون النواحي الجنسية، ويتحدثون عن الشواذ والجناة وتجار المخدرات، لكنهم لا يذكرونها، بمثل هذه الألفاظ المسفة العارية، رأينا ذلك في قصص محمود تيمور، وتوفيق الحكيم، ومحمد عبد الحليم عبد الله، والطيب صالح ونجيب الكيلاني، ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس، رغم أنهم ذكروا أشياء كثيرة، تحدث في الفراش، لكن لم يجرؤ أحدهم، ولم ينزل أحدهم إلى مثل هذا الدرك.

 

– واستمر د. القرضاوي، يرد: قالوا في أدبنا أشياء مكشوفة، مثل ما قاله امرؤ القيس، أو مثل ما ورد في خمريات أبي نواس، أو في التغزل بالذكور، وقال: بأن هذه الأشياء في أدبنا، لا تمثل الاتجاه العام، وليس لها أثر في مجرى الحياة، وكانت أشياء خاصة بتداولها بعض الناس في مجالسهم، أو يقرأها بعض الناس في كتبهم، وكانت هذه الكتب محدودة الانتشار.

 

– وأخيرا نقول إن الإبداع أمر لا يختلف على أهميته اثنان، والاحتفاء بالمبدعين، دأب المجتمعات الحضارية، التي تنشد الرقي والتقدم دائما وأبدا.

 

– ولكن الطامة الكبرى أنه باسم الإبداع وحرية النشر والتعبير، تقذف لنا دور النشر كتابا هنا، ورواية هناك، يكون هذان المجالان (الدين،الجنس) محورهما، مع كثير من التطاول، على حرمة المقدسات والرموز الدينية، وكثير من الإسفاف والابتذال، والخروج على الآداب العامة.

 

– ولذلك أرى أن هذا التأصيل ضروري، لكي نتعرف على قيمة المنفعة والمتعة وغيرهما، في تحديد إبداعية العمل، وكذلك للتعرف على الأطر، التي تعمل الحرية في حدودها، إذ لا يمكننا الاعتماد على المنهج الغربي، الذي يكيل بألف مكيال، فيحتفي بسلمان رشدي، باعتباره مبدعا، ويضيق صدرا بروجيه جارودي، فيسن قانون (جيسو – فابيو) ليقدمه للمحاكمة، لأنه كتب (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية )، كما لم يتسع صدره لـ(دافيد ايرفنج)، المؤرخ البريطاني، الذي شكك في أرقام الهولوكوست”.

 

– إننا نحتاج للفن والأدب نعم.. ولكن نريد فنا يرتقي بالمجتمع ولا ينحدر به.. يعلي القيم والأخلاق لا يهبط بها في هوة الانحلال والتفسخ من كل فضيلة.. وهذا دور مثقفينا وأدباءنا فليسدوا الثغر ولا يؤتى الإسلام من قبلهم.

من د. أحمد زكريا

كاتب وباحث