تعتبر السعودية تاريخيا دولة محورية في المنطقة، ومثلت عالم السنة شكلا في كثير من العقود المتتالية منذ أن تفجّر النفط في هذه البلاد، وبها أرض الحجاز حيث الحرم المكي، أفضل بقاع الأرض وأقدسها عند المسلمين، وكذلك المسجد النبوي الشريف، وقبر الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، ويزور الملايين من المسلمين سنويا إلى هذه البقاع لأجل أداء مناسك الحج، وزيارة النبي عليه الصلاة والسلام، والصلاة في المسجدين المباركين، وازدادت قوة حين أعلن حكامها بأن الشريعة الإسلامية هي الدستور، ودستورها هو الوحي.

 

قامت هذه الدولة على ثلاثة أركان، وهي كدولة تبدو أنها لا تعيش في العصر الحديث، بل تعيش بمنطق القرون الوسطى، فهي دولة (عائلية) واسمها يؤكد ذلك، فالسعودية انتماء إلى محمد بن سعود مؤسس الدولة الأولى، ومن هنا يجب أن نعرف هذه الأركان الثلاثة:

 

أولا: قامت السعودية على اتفاقية جرت كما هو معلوم  ما بين الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وبين الملك محمد بن سعود، فهذه الاتفاقية بقيت بدون خرق لها في جميع الدول التي قامت على اسم السعودية، الأولى، والثانية،وكذلك الثالثة التي أسسها الملك عبد العزيز رحمه الله، فهذه الاتفاقية شكلت العقد السياسي الذي قامت به السعودية، فطالب رجال الدين من رجال الحكم من آل سعود تطبيق الشريعة، ونشر الفكر الوهابي، وتبنى النسخة السلفية من القراءة السنية، بينما أكّد رجال الدين ولاؤهم المطلق لآل سعود، ودفاعهم عن الأعداء في الداخل والخارج، وبهذا نجد آن آل الشيخ وتلاميذهم يمثلون الدين، وأن آل سعود ومن كان معهم من رجال الدولة يمثلون الجانب السياسي من هذه الإتفاقية.

 

ثانيا: قامت الدولة السعودية على القهر، لا على التراضي، والقوة لا على التفاهم، ومن هنا نجح الملك عبد العزيز بمساعدة البريطانيين قهر القبائل، ودحر القوى السياسية الموجودة في الجزيرة العربية، وحارب الدولة العثمانية.

 

ثالثا: قامت السعودية على الولاء للغرب، فكانت من قبل، من زمن الملك عبد العزيز تعمل مع المملكة المتحدة، بل وكان الملك عبد العزيز يأخذ راتبا شهريا منها، ثم حينما بدأت بريطانيا تخرج من القيادة العالمية، وبرزت أمريكا كقوة عالمية، وعلمت الأخيرة من قبل الدراسات بأن السعودية تسبح في عالم من بحار النفط، جرى اتفاق بين روزفلت وعبد العزيز في عام ١٩٣٢م في سفينة حربية تابعة للولايات المتحدة، وجرى حينها الاتفاق السعودي الأمريكي حيث أضحت السعودية دولة محمية، وتابعة للقوة الوليدة.

 

إن السعودية قامت على هذه الأركان الثلاثة، وبعد بروز الإتحاد السوفيتي كقوة عالمية، وتبنت روسيا النظام الشيوعي برزت الحاجة إلى السعودية كقوة دينية لمحاربة الشيوعية، فكان هناك اتفاق غير مكتوب، وتقاطع المصالح ما بين أطراف ثلاثة في محاربة الشيوعية، القوى الرأسمالية، ومثل هذا الطرف الغرب بقيادة الولايات المتحدة، والطرف الثاني مثله القوى الدينية بقيادة السعودية والحركات الإسلامية، بينما مثل الطرف الثالث الفاتيكان بقيادة البابا يوحنا الثاني، ومن هنا وجدنا نشاطاً غير عادي للسفارات السعودية في العالم العربي والإسلامي، وأسست السعودية جمعيات كثيرة، وعملت هذه الجمعيات في نشر الوعي الديني، وخاصة في نسخته الوهابية، وأرسلت إلى كل مكان دعاة متفرغين لنشر الدعوة، بل وأسست السعودية جامعات إسلامية متقاربة التوجه، منها الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، والتي استقطبت الآلاف من طلبة العالم الإسلامي، وجامعة أم القرى في مكة المكرمة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، ونافست هذه الجامعات بسبب الوفرة المالية (الأزهر الشريف) تلك الجامعة العريقة التي احتفلت قبل عقود عدة ألفيتها الأولى، ومنح الغرب السعودية تأشيرة العمل في كل مكان، ونشر أفكارها لمحاربة الفكر الشيوعي الذي نجح في استقطاب الشباب في العالم، وأدى إلى زحزحة الفكر الرأسمالي في عقر دارها، ومن هنا نجح الغرب في توظيف القوى الدينية في مواجهة الفكر الشيوعي.

 

لقد قدمت السعودية قراءة خاصة للفكر الإسلامي، فكانت هذه القراءة مدعومة من السلطات لأجل استمرارية الحكم، فكانت هذه القراءة تتميز بالحرفية والظاهرية من جانب، والتشدد والتطرف من جانب آخر، كما أن السعودية نشرت التدين السطحي والشكلي والذي يقوم على الفتاوى، ومن خلال الدعم المالي السخي، وطباعة الكتب ذات التوجه الوهابي، والرسائل التي تحمل الفكر ذاته ونكهته، ونشرها في ربوع العالم مجانا، كل ذلك أدى إلى نشر فكر ظاهري يحارب الفكر المقاصدي، وتدينا سطحيا يحارب التدين العلمي، ومع هذا، فقد استفاد من هذا الزخم بعض الدعاة، ونشروا من خلال ذلك الكتب ذات الأوزان الثقيلة، والمراجع العلمية، وبرز من خلال ذلك كتب ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما، بل ونشر بعض الدعاة من خلال الجامعات، والجمعيات التي تأسست في لحظات تقاطع المصالح كتبا عظيمة الأثر، ومن خلال ذلك برزت الصحوة الإسلامية التي مثلت في لحظة تاريخية كما قال الدكتور مراد هوفمان، الفيلسوف الدبلوماسي الألماني الطريق الثالث، بل وأضحت تهديدا مباشرا للأنظمة، ومنها النظام السعودي الذي قام على تحالف ثنائي ما بين رجال الدين، وآل سعود.

 

إن الأسرة الحاكمة في السعودية أبدعت نظاما سياسيا من شأنه أن يوقف الحروب ما بينها، فقد كان هناك اتفاقا غير مكتوب بأن تكون الدولة العميقة لأولاد نايف الذين يحكمون الداخلية والأمن، ولأولاد سلطان الذين يحكمون الدفاع والجيش، ولأولاد عبد الله الذين يحكمون الحرس الملكي، وبهذه الثلاثية كانوا يمثلون في العقدين الأخيرين الدولة العميقة للسعودية، وبهذا دخلوا مع الغرب اتفاقيات، وفهم الغرب أن ذلك قد يؤدى إلى نوع من الاستقرار ولو كان مؤقتا، وشكليا، ولهذا مثل نايف رجل الغرب في دحر الإرهاب، ومن بعده ابنه محمد بن نايف، وما زال الغرب السياسي من خلال مؤسساته يعتقد بأن محمد بن نايف هو رجل المرحلة، ومن هنا نجد بأن محمد بن سلمان يخاف من عودة هذا الرجل من خلال الغرب، ومن خلال وجود ولاءات قبلية في داخل السعودية له، وعلى كل حال، فإن محمد بن سلمان، ومن خلال والده العجوز، والرئيس ترامب الذي لا يعرف من السياسة سوى (البسنس)، ومن خلال كوشنير صهر الرئيس ترامب، والذي عرف من خلال أصدقاءه الإماراتيين بأن محمد بن سلمان مراهق سياسي قد يلعب دورا محوريا في التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، كل ذلك أدى إلى إبراز هذا المراهق السياسي، ولكن ماذا عمل محمد بن سلمان مع ترامب لأجل الوصول إلى مآربه؟

 

أولا: قام بتفكيك الاتفاقية التي جرت ما بين الشيخ محمد بن الوهاب، والملك محمد بن سعود، فقد ذكر سفير الإمارات في الولايات المتحدة بأن السعودية والإمارات تسعيان لإقامة دول علمانية في المنطقة.

 

ثانيا: قام بتفكيك الأسرة الحاكمة لينهي مرحلة حكم عبد العزيز، وبداية مرحلة حكم آل سلمان، ومن هنا قام، ولأول مرة في تاريخ السعودية إزالة الهيبة من الأسرة الحاكمة، بل وقرر بشكل غير قانوني استخدام الفنادق كسجون للعائلة، ومن كان قريبا منها كالتجار ورجال الإدارة، وهذا يمثل تهديدا مباشرا للحكم السعودي.

 

ثالثا: حارب بشكل منهجي التدين الشكلي الذي صنعته السعودية، وأقام بديلا عنه مشروعا يقوم على العلمانية السطحية، والليبرالية الشكلية، فهو يدعو إلى تحرير المرأة من الحجاب، ولكنه لا يدعو إلى تحرير المرأة من التبعية، وجعل مشروع سياقة المرأة للسيارة نجاحا، بينما المرأة الصومالية قادت الطائرة في سبعينيات القرن العشرين، وكانت تقود المرأة الصومالية والجيبوتية السيارة ما قبل الاستقلال من الستينيات من القرن العشرين.

 

رابعا: غيّر بدون وعي سياسي  جلد السعودية الحضاري بسرعة، وبدون تدرج معقول، وأعلن الحرب على التوجه الحضاري، وسجن الآلاف من ذوى التوجه الحضاري الإسلامي، كما سجن الليبراليين الحقيقيين من دعاة حقوق الإنسان من الرجال والنساء، وبهذا فهو يدعو إلى انفتاح غير أخلاقي لينشغل الشباب بهذا، ويحارب دعاة الانفتاح من التوجه الإسلامي، والتوجه الليبرالي.

 

خامسا: وضع كل مقدرات الدولة السعودية تحت ترامب، وكوشنر، ومحمد بن زايد لأجل تسهيلهم لوصوله إلى كرسي الملك في السعودية، وبرز، ولأول مرة مدى هشاشة الدولة السعودية حيث أعلن ترامب، وعلى الملأ، وبدون حياء بأن السعودية بقرة، وحين تصبح بلا حليب، فإن الولايات المتحدة سوف تتركها، بل وقال للملك سلمان: هات أكثر، فإنك تملك المليارات، ونحن ندافع عنك، فإن لم تفعل ذلك، فإن حكمك لن يدوم أكثر من أسبوع، فهذا الكلام كان واضحا جدا، ويدل على أن السعودية في زمن محمد بن سلمان تعيش في أزمة سياسية داخليا، وفي امتحان صعب خارجيا.

 

سادسا: واجه محمد بن سلمان امتحانا دبلوماسيا صعبا، فهو يحاول إسكات المعارضين، سواء من يعارض بحكمة، ويحب آل سعود، بل ولديه ولاء كالصحفي جمال خاشقجى الذي تم قطع جسده في داخل القنصلية السعودية، وقيل أن رأسه حُمل إلى الرياض ليستمتع به محمد بن سلمان، ومن يعارض بشدة، كما أنه يواجه في الغرب أحكاما من القضاء بسبب طغيانه السياسي، ومن هنا فهو يعيش في أزمة دبلوماسية مع الغرب.

 

سابعا: لقد تدخل مع الإمارات اليمن لأجل الدفاع عن الشرعية كما قالوا، ولكن يبدو من خلال المعارك بأن إيران نجحت في وضع السعودية في وحل اليمن، وأنها تخسر المليارات من الدولارات، بل وخسرت الإنسان اليمني الذي يرى اليوم بأن السعودية دولة معادية، وبهذا فقد  خسر في هذه الحرب، بل ونجحت إيران التي لم تستخدم بعد كل ما تملك من أوراق أن تجعل الحرب في داخل السعودية، وقد أجابت إيران بذلك، لأن محمد بن سلمان هدد بأنه سوف يدمر إيران من الداخل، وأنه يملك أوراقا تساعده في ذلك.

 

ثامنا: حارب محمد بن سلمان الفكر الديني الوسطي الذي يمكن أن يكون ورقة بيده، ذلك لأن إيران قبل أن تكون قوة عسكرية، وسياسية، فهي دولة تقوم على الفكر، والفكر يواجه بالفكر، وليس بالدعاية الرخيصة، ومن هنا رأينا العراء الإستراتيجي فكريا عند محمد بن سلمان، فهو لا يملك رؤية سياسية من شأنها صناعة المشروع السياسي الذى يخلق له القوى الناعمة.

 

ماذا بعد؟

 

إن المراقبين في الشأن السعودي يؤكدون بأن السعودية تنتهي بشكل دراماتيكي بيد محمد بن سلمان لو نجح في إقامة مشروعه السياسي المجنون، وأنه يمهد في إسقاط النسخة الثالثة لدولة آل سعود، ومن هنا نجد بأن العقول السعودية من كل التوجهات غادرت البلاد، واتجهت نحو الغرب، وتأسس قريبا حزبا سعوديا، يجمع كل الطيف من الإسلاميين والليبراليين، ومن العلماء والأكاديميين، ومن السنة والشيعة لأجل إنقاذ البلاد من السقوط، ويدعو هذا الحزب إلى إقامة ملكية دستورية، وهناك من المعارضين السعوديين من ينتقد هذا التوجه، لأن الملكية الدستورية لا تمنح، ولا تصنع، ولكنها تأتى من خلال المعاناة، ومن خلال الانتزاع، فالحقوق السياسية لا توهب، وإنما تنتزع، ومع هذا، فهذا جزء من النضال السياسي لأجل إنقاذ وطن فيه أقدس البقاع عند المسلمين.

من د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي