تحدث السيسي في مقابلته الأخيرة مع ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية مع الصحافة، وهو يبدو في حالة مضطربة نفسيا، ذلك لأنه علم من المخابرات بأن حاجز الخوف الذي بناه في مصر تم هدمه، واستطاع الشعب المصري أن يعبّر مرة أخرى عن نفسه فى مظاهرات عارمة، وأن الشعب مستعد للخروج مرة ثانية غذا الجمعة مما أوجد خوفا وقلقا عميقين لدى السيسي، ولهذا بدأ يبيع كعادته بأن البديل عن السيسي هو الإسلام السياسي، وأنه يمثل ضامنا فى عدم الصعود لهذا التيار الخطير كما يزعم، ويعرف السيسي بأن هذه اللغة تنفع كثيرا عند الأصوليين، والتيار اليميني، والوسط اليميني فى الغرب، ولكنه قد ينسى بأن الدعم الخارجي الذى وصل ذروته لم يحقق النتيجة فى مصر لضعف فى قيادته، وفشل فى إداراته للتناقضات الموجودة فى مصر، ومواجهته العنيفة والدائمة للشعب المصري، وإفقارة للقواعد الشعبية مع وجود دعم غير مسبوق لمصر من دول المحيط، فقد تتحدث بعض الجهات عن مبالغ مالية تصل إلى 83 مليار دولار، بينما تقول جهات أخرى بأن المبالغ الحقيقية ليست مشاعة، وهي من أسرار الدولة المصرية، ودول الداعمة، ومع هذا هناك أخبار تؤكد بأن المبالغ وصلت أكثر من 150 مليار دولار، فهذه الأموال الضخمة لم يتم استغلالها فى إخراج مصر من محنة الفقر، بل فى صناعة ثروة غير شرعية، وبناء دولة وظيفية فى داخل الدولة العميقة، والإثراء الفاحش لأسرة السيسي، والمحيط الداعم له.

 

حين نحاول معرفة مآلات الأمور فى لحظة السيسي، وما بعد لحظة السيسي يجب أن نقرأ الخريطة السياسية لمصر الحالي، فقد حاول السيسي كشخص ومن معه من القواعد الجديدة فى الحكم فى مصر صناعة الخوف، ودولة الأمن، ونشر الرعب، وإيقاف دولة القانون فى ما بعد الثورة المصرية، وإفشال المرحلة المدنية ما بعد الثورة، والانقلاب على الشرعية التى قامت فى مصر باسم محاربة (أخونة الدولة)، ولكن تم فيما بعد (عسكرة الدولة)، ونجح السيسي فى إبعاد المجتمع المدني، وفكرة التعدد، ومشروع الجماعة الوطنية، وكل ذلك أصبح لحظة جديدة فى زمن السيسي، وللعلم، كان هذا موجودا فى زمن مبارك، ولكن كان قليل الدسم، بينما هذه اللحظة الأمنية فى زمن السيسي صارت كاملة الدسم، وظن الرجل بأن المناخ السياسي ليس مقبولا إلا مشروع السيسي.

 

فى مصر قوة سياسية تحكم، ولديها بعض الملفات المهمة، وعندها تجارب فى تحريك الشارع، ولكنها ليست قوة مرئيّة، فهذه القوة يمكن أن نسميها (الدولة العميقة)، وهي التى اختارت لأسباب سياسية السيسي، ولكن الرجل حاول أن يصنع (الدولة الموازية) لأجل تفكيك الدولة العميقة، لأنه يشعر الضعف أمامها، فهو يحاول أن يكون السادات من جديد، ولكن الذى غاب منه أن السادات لم يواجه الدولة العميقة، وإنما واجه المشروع الناصري بمشروع آخر، واستخدم التيار الإسلامي، والتيار الليبرالي فى الوصول إلى أهدافه، ولَم يواجه الشعب المصري، بل حاول استخدام الشعب وخاصة فى المجال الديني والمدني، بينما السيسي يتخبط فى المجالين بشكل غير مسبوق فى تاريخ الدولة المصرية.

 

إن الدولة العميقة فى مصر ليست دولة وظيفية، بل هي مكونة من جهات عدة، فهناك قيادات الجيش السابقين والحاليين، ورجال مبارك، وأصحاب المصالح العميقة، وغيرهما، ولديها ملفات كبيرة، ولهذا نؤكد بأن الدولة العميقة خافت كما يبدو من السطح فى وقوع الحالة المصرية فى خيارات ثلاثة مع بقاء السيسي :

 

الخيار الأول : نهاية الدولة المصرية معنويا، وهذا واضح من العلاقات الخارجية للدولة المصرية، فقد خرجت مصر كما قلت فى مقال سابق عن الدولة القائدة فى المنطقة إلى الدولة المقودة، وتركت فراغا سياسيا فى المنطقة، بل وأصبحت دمية فى يد المراهقين السياسيين فى المنطقة، وهدا ما جعل كذلك ترامب يقول عن السيسي (الدكتاتور المفضل)، ويتحدث أمام الكاميرات بشكل مقزز عن مساعدات أمريكية قد تنفع، ويتساءل عن وزير المالية فى جلسة رسمية حتى يشرح للسيسي مدى قوة المساعدات الأمريكية.

 

الخيار الثانى : نهاية الدولة المصرية ماديا، وسقوطها فى الفوضى السياسية، أو ما يسمى بالدولة الفاشلة، وتؤكد جهات كثيرة تتابع الشأن المصري بأن مصر على الأبواب لتكون دولة فاشلة، فهي الآن فى زمن السيسي قريبة من لحظة السقوط فى مربع الفشل السياسي.

 

الخيار الثالث : بقاء مصر فى مرحلة (السيسي) فى عقود متتابعة، ومن هنا سوف تصبح مصر العظيمة، والتى قادت المنطقة عبر الفكر والعلم عبئا على التاريخ، وتترك الساحة لقوى أخرى تظهر للقيادة، ومن هنا نرى أن تركيا استفادت من الفراغ الناتج عن خروج مصر من القيادة، فتصبح دولة تركيا قيادة شعبية للعالمين العربي والإسلامي، ويتبوأ أردوغان مكانة قد تبدو قريبة من مكان الناصر فى الستينيات من القرن العشرين المنصرم، أو الملك فيصل فى السبعينييات من القرن ذاته، ولهدا نجد اليوم مصر السيسي معروفة بالشحاتة فقط، والدفاع عن مصالح الآخرين، والتنازل عن القضايا الأمنية والإستراتيجية بشكل لم يسبق له مثيل.

 

لقد خافت الدولة العميقة فى الوصول إلى هذه المآلات، وهي كلها تشير إلى خطورة سياسية، ومن هنا وجدنا تحركا غير عادي فى الدولة العميقة، بل ووجدنا خوفا حقيقيا للسيسي من الشارع لأول مرة فى حياته السياسية، وعرف أن مواجهته فى هذه المرة ليست مع (الإسلام السياسي) وحده كما يقول دائما، بل هو فى مواجهة مع الشعب المصري، ووراءه الدولة العميقة، ولهذا أعلن الحرب هذه المرة على التيار المدني، وليس فقط على التيار الإسلامي المدني كما فعل سابقا، فقد تم اعتقال أكثر من (1500) شخص فى أقل من أسبوع، ومن هؤلاء قامات فكرية وعلمية منهم الدكتور حسن نافعة الأستاذ فى العلوم السياسية وغيره من النشطاء، لأن هؤلاء عرفوا بأن سفينة السيسي تغرق البلاد والعباد فى محيطات لا ساحل لها، ولهذا قال الدكتور حسن نافعة بأن السيسي يحب أن يرحل الآن، وليس غذا، فالبلد لا يتحمل غباء السيسي أكثر من هذا، ومن هنا اتفق الجميع بأن لحظة السيسي قربت فى الأفول.

 

فى الشأن المصري قوة ثالثة، ولكنها غير مسيسية، وهي القوة التى ظهرت فى مظاهرات الجمعة الماضية، القوة الشبابية الجديدة، وهؤلاء فيما يبدو من أعمارهم هم جيل العشرينيات من العمر، وليس لديهم مستقبل مع السيسي ونظامه، ويعيش هذا الجيل بلا أمل، فالفقر تجاوز الحدود، والأموال تمددت لتتكدس عند عائلة واحدة، بينما الفقر يتمدد ليكون موجودا فى كل أنحاء مصر، ومع هذا فالرجل يعيش فى وهم الحياة الصنمية، فهو يشيد مدنا، ويبنى قصورا، ويصنع سجادات حمراء بأثمان باهظة، بينما هؤلاء الشباب يواجهون الموت البطيء فى بلد الحضارة (مصر أم الدنيا).

 

لقد حاول السيسي وأد الإسلام السياسي، وتعامل معه بشكل عنيف، وحكم كثيرا من القيادات من هذا التيار على الإعدام المادي والمعنوي، ومنهم من مات واستشهد، ومنهم من هرب وترك مصر، ومنهم من هو قابع فى سجون السيسي السئية السمعة يواجه الموت البطيء، ويسكت المجتمع الدولي عن هذه المجازر التى تقع فى مصر فى القرن الواحد والعشرين تحت ما يسمى بمحاربة الإرهاب، ولكن الرجل لا يعرف بأن الفكر لا يموت تحت الإرهاب، وخاصة إرهاب الدولة، وإنما يسكن قليلا، ثم يتكيف مع المرحلة ليخرج بعد ذلك من هذه المرحلة، فالفكر لا يموت بسهولة، ومن هنا فما زال التيار الإسلامي قويا لسببين، أولهما هو وجود التدين الفطري للمجتمع، وثانيهما رفض هذا التيار الوسطي فى التحول من الحراك السلمي إلى الحراك العنيف، وهذه خطوة غير عادية، ولدينا أيضا سبب ثالث وهو أن البديل عن التيار الوسطي فشل فكريا قبل أن يفشل سياسيا، ولهذا أصبح التدين الرسمي يواجه فى لحظة السيسي منهجية قاسية لا ترحم أحدا.

 

ماذا بعد؟

 

لا شك فى أن السيسي كمرحلة انتهى، ولكن ماذا بعد السيسي؟ لن ينتهى السيسي بسهولة كما يحسب الكثير، ولكنه لن يبقى طويلا كما خطط هو وجماعته وأنصار الثورة المضادة، فالحراك الحالي بداية وليس نهاية، والشعب المصري اليوم لن يكون كما كان، ولكنه لن يحقق النصر كما يحب الكثير بسهولة، ومع هذا فقد بدأت الحرب ما بين الأجنحة، وهذه الحرب مفيدة للمستضعفين، فلا فائدة من سكون سياسي يؤدى إلى تخريب الدولة، ولا فائدة من حراك سياسي لا يستفيد منها سوى الأقوياء، ولهذا فلا بد من عمل سياسي منظم يقود إلى نصف ثورة، ومن أهم ما يحب فى هذه المرحلة هو الخروج لأجل مصر، وإعلان التفاهمات بين القوى الحقيقية.

 

إن مصر دولة عظيمة بلا شك، ولديها مقومات العظمة من الإنسان المدرب، والبيئية الخصبة، ولكن الغائب منها هي الإرادة السياسية، فالنخب المصرية معارضة وغير معارضة تعيش فى غير لحظتها، ولهذا فهي مدعوّة لتكون موجودة فى اللحظة، ومن وحي اللحظة، أن تنجح فى تحقيق مبادئ الثورة، فلا كرامة للإنسان المصري مع غياب الحرية،وقديما قال عمر لعمرو بن العاص : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

 

إلى متى يبقى الإنسان المصري العظيم تحت العبودية التى قد تكون فى بعض الأحيان اختيارية؟ (العبودية المختارة)، وإلى متى يظل الشعب المصري يكون بين الخيارين، إما الحرية، وإما دولة الأمن؟ لماذا لا ينجح الشعب المصري فى بناء الجماعة الوطنية؟ وما المانع فى صناعة المناخ الآمن لدولة القانون والعدل؟

 

ليس مهما أن يرحل السيسي فقط، بل المهم أن ترحل ثقافة المنظومة السيسية، فالمشكلة ليست فى السيسي، ولكن المشكلة هي التى أوجدت السيسي فى القمة من الدولة، وقد رأيت فى الرجل تكبّرا لا حد له، ولكنى وجدت فى الشعب المصري تحمّلا له بلا سقف، وقريبا رأيت (ترودو) رئيس وزراء كندا وهو يعتذر للشعب الكندي بعد أن ظهرت فى الإعلام صورا مهينة للإنسان الأسمر، وقد كانت قبل عقود، ولكنه تواضع كثيرا، وقال للشعب الكندي بدون تكبّر: أعتذر لكم، لأنه يعرف أن السيادة للشعب، وليس للحاكم، فليرحل السيسي وأمثاله من الحكم، ولترحل معه ثقافة الحكم المطلق، وحينها يبدأ الشعب المصري يستعيد حيويته وقيادته للمنطقة، ودوره المفقود فى العالمين العربي والإسلامي، بل والقارة الأفريقية.

من د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي