ما زال الحديث موصولا حول المنهج الإلزامي في المحافظة على الأعراض ، وكنا قد تكلمنا في المقال السابق حول تشريع الإسلام للزواج بتمام شروطه وأركانه ، ونكمل الحديث في هذا المقال حول المنهج الإلزامي في المحافظة على الأعراض فنقول وبالله التوفيق:

2- تشريع الإسلام للاستئذان على البيوت:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النور: ٢

الآيات التي تقدّمت في صدر السورة كانت في حكم الزنى وبيان أنّه قبيح ومحرّم، وأنّ صاحبه يستحق العذاب والنكال، ولما كان الزنى طريقه النظر والخلوة والاطلاع على العورات، وكان دخول الناس في بيوت غير بيوتهم مظنة حصول ذلك كلّه أرشد الله – عزّ وجلّ – عباده إلى الطريقة الحكيمة التي يجب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول هذه البيوت، حتى لا يقعوا في ذلك الشر الوبيل، وأيضا فإنّ أصحاب الإفك لم يكن لهم متكأ في رمي عائشة – رضي الله عنها – إلا أنها كانت مع صفوان في خلوة أو ما يشبه الخلوة، لذلك نهى الله  عن دخول البيوت بغير إذن حتّى لا يؤدي ذلك إلى القدح في أعراض البرآء الأطهار.

روي في سبب نزول هذه الآية أن امرأة أتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي أحبّ أن لا يراني عليها أحد، ولا ولد ولا والد فيأتيني آت، فيدخل عليّ فكيف أصنع؟ فنزل:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

هكذا ينبغي على من يقصد زيارة الآخرين أن ينسق معهم ويعلمهم بقدومه ويستأنس بوجودهم وإذنهم ما أمكن والاستئناس والاستئذان أمران متقاربان يجمعهما معنى الإخبار والإعلام، إخبار الزائر مزوره برغبته في زيارته، وانتظاره الإجابة على هذه الرغبة إما بالموافقة وإما بالاعتذار المبرر اللطيف.

وقد سمي الاستئذان استئناساً؛ لأنه بالإذن يحصل الأنس والطمأنينة لأهل البيت بدليل أنه لو دخل عليهم بغير استئذان لاستوحشوا وضاقت صدورهم.

هذا ومن آداب الاستئذان أن يتخير الإنسان الأوقات المناسبة لزيارة الآخرين، بحسب ما يهدي إليه الذوق السليم، ويمليه العرف الاجتماعي المألوف، ولعل في تعبير القرآن عن الاستئذان بالاستئناس إشارة إلى هذا المعنى، حيث إن الإنسان ببصيرته النفاذة يعرف من حاله في بيته إن كان وقت زيارته للآخرين ملائماً أو غير ملائم.

كما أن من آداب زيارة الآخرين التي لا ينبغي للمسلم التهاون في شأنها أو التغاضي عنها: ألا يقف الزائر أمام الباب، بل يقف أيمن منه أو أيسر منه، وهذا ما كان يفعله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويوصي به المسلمين.

وحكمة الوقوف في طرف الباب الأيمن أو الأيسر لا أمامه ألا يقع البصر على ما في الدار من حالات أسرية خاصة أو أشياء يكره صاحب الدار اطلاع غيره عليها صوناً لمكانته وحفظاً لسمعته؛ لأن البيوت أسرار لأهلها في الأنفس والأموال والأمتعة.

وبهذا الأسلوب الاجتماعي الرفيع يصون الإسلام حياة الناس في منازلهم، ويحفظ الأنظار من أن تقع على حال غير جديرة بالنظر وهذا ما لم يكن يألفه العرب في جاهليتهم، حيث كانوا يتطاولون بأجسامهم للنظر إلى البيوت من نوافذها أو من فوق أسوارها، من غير مراعاة لحرمة دار، ولا تقديس لحياة أسرية خاصة.

هذا ومن آداب زيارة البيوت أن يقرع جرس الباب مثلا مرتين أو ثلاث مرات متباعدات نسبياً، إذا لم يفتح الباب بعد المرة الأولى، فإن لم يكن جواب بعد الثلاث فينبغي على الطارق الرجوع دون أن يجد في نفسه غضاضة، ولا يصح أن يشتط في قرع الباب مرات أخرى قال الله تعالى:

( فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) النور: ٢٨

وكما شرع الإسلام الأحكام والآداب الآنفة الذكر وغيرها من الآداب لمن يريد زيارة بيوت الآخرين، فقد شرع أحكاماً أخرى خاصة بأهل البيوت أنفسهم، وحق بعضهم على بعض. ومن ذلك أن يستأذن الرجل في الدخول على محارمه كأمه وابنته وأخته، ولو كان هو صاحب الدار، وهن يقمن معه، وأسلوب الاستئذان هنا هو التنبيه بالصوت أو السعال أو التنحنح أو نحو ذلك مما يشعر بقدومه.

3- الأمر بغض البصر للرجال والنساء:

قال تعالى: ” قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ” النور: ٣٠

هذه الآية جاءت بعد آية الاستئذان في دخول البيوت، والإنسان إذا دخل بيتاً ربما وقعت عينه على عورة، فالأكمل لمن دخل بيتاً بعد أن استأذن أهله أن يغض بصره، جاءت هذه الآية بشكل عام لتشمل الذين دخلوا البيوت، والذين يمشون في الطرقات، دخول البيت، بيت الغير مظنة للاطلاع على العورات، وقد جيء بهذه الآية على شكل حكم عام كلف به المؤمنون جميعاً حتى يشمل المستأذن، وغير المستأذن.

فإطلاق البصر سببٌ لأعظم الفِتَن، فكم فسد بسبب النظر من عابد، وكم انتكس بسببه من شابٍ كان طائعاً لله، وكم وقع بسببه أناس في الزنا والفاحشة، والعياذ بالله، العين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره، غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق العبد بصره، أطلق القلب شهوته وإرادته، ونُقِشَت فيه تلك المبصرات فشغل بها عن التفكر في رب الأرض والسماوات.

لذا لما كان إطلاق البصر سببا لوقوع الهوى في القلب، أمر الشارع الحكيم، في أعلى مرتبات النصوص في القرآن الكريم، بغض البصر، وحينما تجد في القرآن الكريم آيةً صريحة واضحة الدلالة قطعية المعنى، تأمر بغض البصر معنى ذلك أن الموضوع خطير جداً، وأنه موضوع فَيْصَل، إما أن تغض البصر فتكون مع الله عز وجل، وإما أن تطلق البصر فينشأ حجابٌ بينك وبين الله.

كان السلف الصالح يبالغون في غض البصر حذر فتنته، وخوفاً من الوقوع في عقوبته.

قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: ” ما كان من نظرة فإن للشيطان فيها مطمعاً “.

وقال ابن عباس رضي الله عنها: ” الشيطان من الرجل في ثلاثة منازل ؛ في بصره، وفي قلبه، وهو في المرأة في منازل ثلاث أيضاً “.

إن الذي أجمعت عليه الأمة، واتفق على تحريمه علماء السلف والخلف من الفقهاء والأئمة، هو أن نظر الأجانب من الرجال والنساء بعضهم إلى بعض، وهم مَن ليس بينهم رحم من نَسب، ولا محرم من الرضاع، فهؤلاء حرام نظر بعضهم إلى بعض، فالنظر والخلوة محرَّم على هؤلاء عند كافة المسلمين، الموضوع ليس خلافيا بل هو من الموضوعات المتفق عليها.

أقف عند هذا الحدّ مخافة السآمة والملل من جانب القارئ الكريم، وأكمل في مقال قادم بمشيئة الله تعالى إن قدر الله لنا البقاء.

من د. عصام مشاحيت

عضو الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة