تمتم الرجل الصالح بتلك العبارة، وهو يتفرس في الوجوه الوسيمة لأولئك الشباب اليافع، الذين دخلوا عليه وهو يعمل في أرضه، طالبين منه استضافتهم لبرهة من الوقت، فهم عابرو سبيل يحتاجون إلى مأوى، وقد طال بهم السفر!!

 

إنكم قوم منكرون!

بتلك الكلمات أجابهم

 

ليست هذه طبيعته، فهو لا يرد ضيفا، لكنه سيئ بهم و ضاق بهم ذرعا، وهو الذي يعلم جيدا ما سيحدث إذا تسرب الخبر لأهل قريته..

 

هو يبغى مصلحتهم، ووجودهم هنا ليس أبدا من تلك المصلحة، وهو رجل ليس له بالقوم قوة، يمنع بها أضيافه، مما حتما سينالهم إذا هم وصلوا إليهم..

 

جئناك من عند عمك، وقد رحب بنا، وأكرم ضيافتنا، ولا نراك إلا كريما مثله ؛ لا ترد ضيفا، ولا تصد عابر سبيل يلوذ بك..

 

قضى الأمر إذا..

 

لم يعد هناك بد من ضيافتهم، وليلطف الله فيما يكون،

 

انطلق الرجل الصالح أمام أضيافه، يتقدمهم إلى داره البسيطة، وهو يعرض لهم بالكلام أثناء سيرهم محذرا إياهم من أهل سدوم، الذين ساكنهم ردحا من الزمان، فلم ير أسوأ منهم خلقا، ولا أخبث منهم طوية،

 

ظل يكرر عليهم تحذيره طوال الطريق، وهم ينظرون إلى بعضهم البعض نظرات ذات مغزى،

 

إنهم يعلمون جيدا طبيعة أهل سدوم، فما جاءوا إلا لذلك!!

وصلوا إلى داره المتواضعة، ودخل الرجل الصالح يتقدم أضيافه،

نادى أهل بيته يعلمهم أن في البيت أضيافا، و يأمرهم بإكرامهم،

سارعت ابنتاه لتنفيذ أمره، وإكرام أضيافه بالطعام،

إلا أن امرأته كان لها رأى آخر،

تلك المرأة التي طالما أذاقته الأمرين،

تلك المرأة التي لم تخالط بشاشة الإيمان يوما قلبها!

تلك المرأة التي طالما كان انتماؤها الأول لقومها، و ولاؤها الأوحد لهم، على ما هم عليه من الفحش و الفجور،

لقد ظلت تحرص على ما يجعل لها حظوة و مكانة لديهم، بغض النظر عما يرتضيه زوجها.

لقد رأت المرأة الشباب الوضىء، و علمت أن قومها منكوسى الفطرة سيفرحون بهم أيما فرح،

لم ترع المرأة الكافرة زوجا، ولم تقدر عرفا، ولم تلتفت لحرمة،

سارعت المجرمة لتسرب خبر الضيوف إلى قومها،

لم تمض دقائق، حتى كان خبر الشبان قد سرى في القرية الأثيمة، سريان النار في الهشيم،

لوط لديه شبان حسان في بيته، وقد نهيناه أن يضيف أحدا إن كان يبغى البقاء بين ظهرانينا.

هذا الرجل الذي يصر على التطهر، على غير عادتنا،

كان الأولى بنا أن نخرجه، وهو الذي يذكرنا -كلما رأينا طهره وعفاف بناته- بنجاستنا وقذراتنا التي نرعى فيها رعى الخنازير في حظائرها المنتنة،

كان الأولى أن نخرجه وأهله، فبضدها تتمايز الأشياء، نحن لا نبغى أن يكون بيننا من لا يعمل بعملنا،

هذا الذى يظن نفسه أفضل منا، وتتأفف نفسه عن مشاركتنا فجورنا.

إنه الآن يتحدانا، وقد تركناه على مضض، ثم ها هو يأتي بأضياف، يظن أننا لن نصل إليهم،

هلموا إليه فلنلقنه درسا لا ينساه، ولنستمتع بأضيافه الذين تجرأ فأتى بهم إلى قريتنا، ولا يلومن إلا نفسه.

 

انطلق رجال القرية، وعلى رأسهم سادتها وكبراؤها، قد ساوت بينهم جميعا حرارة الشهوة، وجمعت بينهم نيران الفتنة، وصهرتهم في كيان واحد ؛

كيان الفسق وانتكاس الفطرة والفجور،

هرع الكل إلى بيت لوط، يمنى نفسه بالفريسة الشهية التي هو مقبل عليها.

لقد تعالى ضباب الشهوة ليطغى على كل شيء،

لتنخرم المروءة، ولينطمس الخلق القويم، وليُمحى أي أثر للفطرة السليمة، والرجولة والشرف،

ما أشبههم في تلك اللحظة بقطيع من الحيوانات المفترسة؛ يسيل لعاب الجوع من بين أشداقها،

ما أشبههم بجمع من الضباع الخسيسة، لا تفكر إلا فى سد رمقها، مهما كانت وسائلها.

 

بلى و الله إنهم لأدنى من الحيوانات، فإنها لا تأتي إلا ما فطر الله غريزتها عليه، إبقاء لجنسها وحفظا لنسلها، فلا تنحرف أبدا لشذوذهم ولا تتردى في دركهم، وهي مع إتيان ما أحل الله لها؛ ربما توارت عن الأنظار، فلا يكاد أحد يشعر بها، ولا تجاهر بما يجاهرون به ويأتونه في ناديهم بكل صفاقة ووقاحة.

 

الغريب أن الحيوان ليستقيم في فطرته، ويعلم وجهته، أفضل من أولئك المنحرفين المعوجين، يا له من سلوك فاحش منتكس مستقذر ممجوج!

يا لها من خيبة وخزي؛ حين تنتكس الفطرة الإنسانية لهذا الدرك السحيق ويذل البشر المكرمون ويهونون على أنفسهم لهذه الدرجة!

تستبشرون ؟!!!

وبم تستبشرون؛

برذيلة أنتم عليها مقدمون،

بفحش أنتم له مستحلون، وضلالة مبتكرة، ونقيصة مخترعة، ما سبقكم بها من أحد من العالمين،

أحري بكم أن تبتئسوا وتحزنوا، بدلا من ذلكم الاستبشار،

لكن هذا شأن الفطرة حين تنتكس؛

تفرح وتسعد بما حق لها أن تتأذى به وتحزن.

 

تعالت الطرقات المتتابعة على باب لوط، مختلطة بضحكات ماجنة رقيعة؛ تلك التي يطلقها المخنثون وأشباه الرجال

افتح يا لوط،

افتح الباب وإلا فسوف نقتحمه،

أولم ننهك عن العالمين؟

أولم نحذرك أننا لن نراعى لك حرمة ولن نقدر لك جوارا؟

الآن ستدفع ثمن اجترائك على تحدينا،

الآن ستعلم أن طهارتك وطهارة بناتك لن تنفعك بشيء،

إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ؛

هؤلاء بناتي إن أردتم الزواج؛

إن أردتم الفطرة النقية التي فطر الله الناس عليها،

صاح لوط من خلف باب داره، بينما يدافع الباب، محاولا إغلاقه، لمنع تلك المسوخ من الدخول،

صاح بهم لعل كلماته تجد بقايا سمع أو بصر في غيابات نفوسهم السكري،

صاح بهم لربما صادفت حروفه لحظة وعى في عقول أترعت حتى الثمالة بالشهوات،

لكن هيهات هيهات!!

إنها السكرات،

سكرات الشهوة، وعمى البصيرة،

لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون،

نعم إن للشهوة لسكرات،

وإن للبصيرة لعمى،

يشهد بذلك كل من ابتلى بتسلط خمر الشهوة عليه،

يشهد إنه يجد نفسه أحيانا كالسكير الذي لا يعي ما يفعل، ولا يدرك ما يقول، ولا يفكر فيما يقترف،

لذا كانت الخمر أم الفواحش؛ فهي طريق قصير لحجب العقل، وطمس الفطنة، وهي أسرع وسيلة لإسكار القلب وطمس البصيرة،

قد يكون عبد الهوى عالما بخطورة تلك الشهوة المحرمة على دينه و دنياه،

لكنه رغم ذلك يقبل عليها حال سيطرتها عليها،

يقبل عليها، ولا يجد في نفسه أدنى قدرة على الممانعة أو الدفاع، قد أغلقت أبواب الحكمة، وسكرت أقفال البصيرة،

تماما كالخمر؛

لها سكرة،

وعمى..

هكذا كان حال القوم، وهم يدفعون الباب محاولين اقتحامه؛

لا يفكرون، لا يرعوون،

هم لا يعون من أمرهم شيئا،

فقط يريدون قضاء وطرهم، و ليكن بعد ذلك ما يكون،

عميت البصائر، غارت آبار الفكر، وانطمس الفهم، لم تتبق إلا سطوة الهوى، وإلحاح الرغبة النجسة الأثيمة..

لكن نداءً تعالى من خلفه : {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ}،

ماذا؟!

من أنتم؟!!

لستم بشرا؟!

أنتم ملائكة، بعثكم الله لإنهاء هذه الحالة من العبث، ولتطهير الأرض من ذلك المستنقع الآسن؟؟

لكن: لن يصلوا إليه!!

كيف وهم بالباب؟!

لحظات ويقتحمون وحينئذ لن يستطيع حمايتكم،

لن يصلوا إليك،

قالها القوم بجزم وحسم،

قد أويت إلى ركن شديد يا لوط،

بطهارة ظاهرك التي تشبه طهارة باطنك،

بنقاء عقيدتك، وسلامة فطرتك،

قد أويت إلى ركن شديد، قد أويت،

لن يصلوا بحال إليك،

لكن.. ما هذا الذي طرأ؟!

لقد قل الدفع وتخافتت الأصوات،

أوتسمعون؟!

لماذا يتخبطون على هذا النحو؟؟

وكأنهم فعلا لا يرون؟

وكأن نور البصر قد لحق بنور البصيرة فانطمس،

لقد طمس الله على أعينهم!

ها هم يتوعدون لوطا بالعودة مصبحين،

ألا إنهم قد ظنوا انطماس البصر مجرد عرض يزول حين طلوع الشمس،

ها هم يضربون موعدا، إنه الصبح،

وإن الصبح لقريب،

يا لوط إنه أمر قد قضي؛ {إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين}،

ما عليك إلا أن تسرى بأهلك بقطع من الليل، فتمضوا حيث تؤمرون،

لا تأخذ معك هذه المرأة الكافرة،

هذه امرأة منهم وليست منك،

إنما مثلها كمثل امرأة نوح وولده،

إنها عمل غير صالح،

وإنها لمصيبها ما سيصيبهم!!

أما أنت وبناتك؛

أنتم أيها الموحدون الأطهار؛

فهيا تحركوا، فلم يعد الوقت المتبقي كافيا، إلا لخروجكم بالكاد،

إياكم أن يلتفت منكم أحد،

إن المشهد الذي سترونه إن التفتم لن تتحمله قلوبكم المؤمنة الطاهرة،

إنه مشهد مروع!!

إنه مشهد يليق بهؤلاء الذين تدنت نفوسهم لدرجة أدنى من البهائم، وانقلبت فطرتهم رأسا على عقب، فاستحقوا أن تنقلب قريتهم رأسا على عقب؛ والجزاء من جنس العمل،

{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ}

جزاء وفاقا من جنس عملهم وما هي من الظالمين ببعيد،

هذا النموذج القرآني الفريد، يضع أمامنا مآلا واضحا لحالة التمادي في الشهوة المحظورة المحرمة الأثيمة؛

إنه مآل بئيس خطير!!

حين يترك المرء العنان لشهوته، ولا يكبح جماحها بالشرع الذي يوافق الخلق والفطرة التي فطره الله عليه، فإنه لا يدرى إلى أي مدى يمكن أن تذهب به.

إن في النفس باعثا خفيا به استعداد للفجور؛ {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه}، فلو لم يعلم متى يوقفه؛ فإن هذا الباعث قد يتضاعف ويتعاظم، لدرجة تطغي عليه فتأسره، حتى يصل إلى تلك الحال؛ حال السكرة والعمى، ثم يئول إلي ذاك المآل؛ مآل البوار والهلاك والخسران،

والمجتمعات التي يترك لها العنان، حتى تتدنى لهذه الدركات من الفواحش، ويصير الجهر بها أمراً عاديا، لهى مجتمعات على شفا جرف هار.

 

ومن المتوقع أن تنزل على مثل هؤلاء الفاحشين المتبذلين عقوبة واضحة صريحة، كما حدث مع سدوم وقوم لوط وغيرهم من الأمم التي ورد ذكرها في التاريخ القديم والحديث، حتى أن البعض يفسر ما حدث من هلاك حضارة بومباي في إيطاليا بذلك، وتلك كانت حضارة قامت على البحر المتوسط، واشتهرت بالفن والعمارة، ويذكر أن فنهم غلب عليه الطابع الإباحي الماجن، حتى أن بعض ملوك أوروبا لما ذهبوا لمشاهدة آثار تلك الحضارة؛ بهتوا ولم يتحملوا الفجاجة التي سادت، وسطرها ذلك الفن، فاضحا ومؤرخا لطبيعة شعب بومباي.

 

لقد بادت تلك الحضارة المشتهرة بالزنا والشذوذ ببركان فيزوف الذي انفجر عام ٧٤ من ميلاد المسيح عليه السلام، والذي أباد سكانها الذين قدرهم المؤرخون بمائتي ألف نسمة، بقيت جثامين بعضهم متحجرة بسبب الغبار البركاني، وهي تزار إلى يومنا هذا..

 

لا نستطيع أن نجزم بما حدث، لهم لأنه لا يوجد نص صريح بذلك، إلا أن الحال التي وجدوا عليها، والرسوم التي تحكى تاريخهم وما اعتادوا العيش عليه، تدعم فكرة أن ما نزل بهم كان عقوبة ربما تكون حلت بهم،

لكن هذا العقاب المباشر ليس شرطا، وإنما قد تتدرج العقوبات، وتتعدد، ولا يلحظها إلا العقلاء، الذين لم تسكرهم الشهوة.

 

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :

[لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم]،

وهذا بلا شك أمر ملاحظ ومطرد في تلك المجتمعات، لكن الأمر الأخطر والعقوبة الأشنع في تقديري هي تلك العقوبة العاجلة لمن تمادوا في شهواتهم حتى عبدوها؛

عقوبة طمس البصيرة، وغياب الوعي والفهم، وحجاب القلب والعقل، وكفي بها عقوبة، إنها عقوبة لا يعقلها إلا العالمون،

عقوبة السكرة

{لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}

 

من كتابي «العودة إلي الروح»

د. محمد علي يوسف

من د. محمد علي يوسف

طبيب وكاتب وخطيب ومحاضر