د. محمد القاسم المنسي

الإيمان بالغيب أحد ركائز الإيمان الديني وهو ليس إيمانًا بالوهم والخرافة –كما يعتقد بعض الناس- ولكنه إيمان بالحق والحقيقة، فعالم الغيب هو المقابل لعالم الحاضر (عالم الشهادة) والإيمان به أول صفات المتقين – كما ورد فى أول سورة البقرة (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ….)..

لكن الغيب الذي أقصده هنا ليس غيب العوالم الخفية كعالم الملائكة والجن والجنة والنار… وإنما الغيب المتصل بحياة الإنسان على الأرض كغيب الوقائع والأحداث..

غيب المستقبل القريب والبعيد مثل غيب النصر والرزق والمغفرة والعتق من النار..

وقد تناول القرآن الكريم هذه الغيبيات في إطار ترشيد المسيرة الإنسانية بما يحقق لها الخير ويجنبها عثرات الفكر والسلوك على النحو الآتي:

ففي غيب النصر يقول: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)،

ويقول: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)، وفى غيب الرزق يقول: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)، وفى غيب الشفاء يقول: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)،

وفى غيب التمكين يقول: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصّلاةَ…)، وفى غيب التوفيق يقول: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ)، وفى غيب الأمن يقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ).. وهكذا..

لكننا نلاحظ أن كل غيب من هذه الغيبيات له وضعان أو حالتان من حيث المستقبل وهما المستقبل القريب والمستقبل البعيد..

أما القريب فهو ما يقع في هذه الحياة الدنيا وعلى أرض الواقع من نتائج عمل الإنسان: من نصر أو هزيمة.. نجاح أو فشل.. خوف أو أمن..

أما البعيد فهو ما يكون عند الله في الآخرة.. حين ينكشف ما في الصدور.. ويزول الغطاء من على العيون والقلوب…

ونحن مطالبون في كل خطواتنا وتخطيطنا بالنظر إلى المستقبل القريب دون أن نتجاهل المستقبل البعيد..

وفى رمضان يستعيد المسلم التوازن المفقود بين (المادية) التي طغت و(الغيبية) التي اختفت.. ومن ثم يمارس التعامل مع الغيب في كل يوم من أيام رمضان فيسعى بحكم الصيام إلى التخلي عن المتع العاجلة (القيم المادية) طلبًا لمرضاة الله وطمعًا في الفوز بالرحمة والمغفرة والعتق من النار (القيم الغيبية).. ولولا ذلك ما كان للصيام -ولسائر العبادات- من قيمة أو دافع..

وما كان للمسلم أن يقبل طائعًا مختارًا عليها إلا لليقين الذي يستشعره في الأجر والثواب في المستقبل القريب والبعيد..

ومن هنا ينشئ رمضان ثقافة جديدة هي ثقافة (اليقين بالغيب) وهى ثقافة تقوى المسلم وتشد من عضده وتطلق طاقاته للعمل والإنجاز في كافة ميادين الحياة بقوة وثبات..

وهو في انطلاقه يعتمد على أسبابه المادية من ناحية وعلى يقينه بالغيب من ناحية أخرى..

وهذا هو التوازن الذي يحققه رمضان للنفسية المسلمة.. وهذه هي الثقافة التي يحتاجها المسلمون فى هذا الزمان.. لأن الثقافة التي تلقوها خلال القرون الأخيرة لم تنتج إلا نفوسًا خاملة وعقولاً مشوهة كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله..

د. محمد قاسم المنسي

من د. محمد قاسم المنسي

أستاذ الشريعة الاسلامية، ووكيل كلية دار العلوم السابق بجامعة القاهرة