ربما يجادلك علماء النفس مؤكدين بأنه من المستحيل أن تحب شخصا لم تلقاه في حياتك الماضية أبدا فتخبرهم عن حبك للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وكيف أن هذا الحب هو ما جعل النبي الحبيب يصف محبيه في هذا الزمان بأنهم أحبابه وليس صحابته كمن عاصروه ورأوه وعايشوا أيامه, وحتى عندما يذكر أحدهم النبي الكريم فتسارع بالصلاة عليه وكأن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم له حلاوة تتذوقها القلوب المؤمنة، وتهفو إليها الأرواح الطاهرة، وهو في ذاته قربة كبرى يتقرب بها إلى الله كل مريد رضوانه وثوبته جل وعلا.

 

ورحاب النبي صلى الله عليه وسلم واسعة، فهو بستان العارفين، ومتنزه المحبين، يحنون إلى سيرته وشمائله وأخلاقه، فيقطفون منها على قدر جهادهم في حب الله وحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

 

وربما يتساءل البعض كيف لحفل غنائي لعدد من المطربين اللبنانيين، والذي أقيم ضمن فعاليات مهرجان “شتاء طنطورة” في المدنية المنورة قبل نهاية عام 2018 أن يثير جدلا واسعا وغضبا عارما في صفوف المدونين السعوديين والعرب وحتى جميع المسلمين في أنحاء المعمورة, فقد عبر غالبية النشطاء من العرب والمسلمين عن رفضهم القاطع لإقامة حفلات موسيقية في المدينة المنورة التي تحتوي قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وصبوا غضبهم على هيئة الترفيه التي أقامت عدة حفلات لا تتلاءم وبلاد الحرمين ومدينة الرسول الكريم, وسبق أن أقامت وزارة الثقافة السعودية بمنطقة العلا القريبة من المدينة المنورة مكان هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفلا صاخبا للفنانة اللبنانية ماجدة الرومي, وقال وزير الثقافة السعودي بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود أن الحدث الذي يقام في منطقة العلا (مدائن نبى الله صالح) التي ذكرت في القرآن وأهلكهم الله لفسادهم, وقد أشعل الحدث الثقافي الجدل بين السعوديين والعرب من جنسيات أخرى على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تصدر هاشتاغ #ماجده_الرومي_في_العلا موقع تويتر، مستنكرين إقامة هذه الفعالية بالأماكن المقدسة وبالقرب من مقام قبر النبي محمد (صلى).. وكذلك قيامها في مدائن نبي الله (صالح) حيث أهلك الله قومه لفسادهم بعد قتلهم ناقة الله وصغيرها ثم سخريتهم وطلبهم تعجيل عذاب الله لهم إن كان نبي الله صالح صادقا على حسب قولهم فكان هلاكهم بطريقة شنيعة ….وهذا مثال لأشخاص غلب عليهم حب الدنيا وأنساهم قدسية أماكن لا يستحقون العيش بجوارها ,ومما أراه من ظلم أكاد أوقن بأن رحمة الله لا زالت تظلهم لوجود أجساد طاهرة في أراضيهم فما زال الخير باق إكراما لهم…

 

وعلى الجانب الأخر ومنذ فترة قرأت مقالا للكاتب محمد تاج الدين وهو أديب وشاعر جزائري يسرد فيه كيف أن حب النبي صلى الله عليه وسلم واحترام مقامه يكون له مردود من الله ولو بعد حين, فقد ذكر الكاتب محمد تاج الدين أنه لم يكن يخطر في بال السلطان الخليفة عبد الحميد -رحمه الله- أنه سيأتي يوم وتعامله (إسطنبول) بمثل ما عامل نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم – من التوقير والحب في مدينته (المنورة)، وقد كان السلطان قبل أكثر من قرن حين وصل مشروعه الكبير (سكة حديد الحجاز) إلى نهاية محطة (المدينة المنورة) أوعز إلى القائمين على المشروع أن يحترموا مقام النبوة وأن يجعلوا (سكة الحديد) دون ضوضاء ودون أصوات عندما تقترب من المدينة احتراما للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فكان ما طلب، كان القطار يصل المدينة المنورة وعلى (السكة) لباد وصوف يجعل صوت احتكاك القطار بها ضعيفا إلى الغاية كلما اقترب من قبر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في فهم خاص من السلطان وذوق روحاني عالٍ لقوله تعالى: { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ فَوْق صَوْت النَّبِيّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ….}، وقوله تعالى: ( لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوه….)

 

ولأن الله تعالى لا ينسى، ولأنه -سبحانه- يعظّم من عظّم قدر نبيه فقد سخّر للسلطان من يفعل به نفس الفعل، وبالطريقة ذاتها قامت بلدية إسطنبول على رد ذلك الجميل (التاريخي) بعمل خاص في البنية التحتية لقضبان المترو المارة قريبا من قبر السلطان، ووضعت أضواءً تحذيرية للمشاة بدلا عن أصوات البوق، وهذا بعد انتهاء مشروع ترميم قبر السلطان الذي هو أيضا جزاء له لأنه عمل بيده مكنسة خاصة وطلب أن تُستعمل في تنظيف (القبة الخضراء) التي على مقام النبي، صلى الله عليه وسلم، وهكذا نابت الأضواء عن الضوضاء، وأعلنت (محبة النبي) صلى الله عليه وآله وسلم، أنها ترفع أقدار أصحابها دنيا وآخرة.

 

ربما قد يصفنا البعض بالتخلف والجهل متناسين قدسية النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبنا وربما لن نغضب أبدا إن أقاموا حفلا غنائيا في كل ثانية ولكن بعيدا عن قبر الحبيب إعزازًا واحتراما, وكم يحزنني من يهدمون الدين إرضاءا لحكام باتوا تابعين ضعفاء لا خير فيهم, وكم أشعر بالغصب من علماء سكتوا عن الحق خوفا أو طوعوا الدين لخدمة ملوكهم وبات رضا ملوكهم غاية أحلامهم, قبحهم الله وأزلهم ولو بعد حين.

 

ومن واجبنا أن نحمد لله على أنه وُجد في الأمة إلى اليوم من يعلم أن الموت لا يلغي قيمة الأشخاص، وأن حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا، وأننا أمة يشارك موتاها أحياءَها في بناء المستقبل في مقابل من يرى أن اقتيات الحي من الميت تخلف ورجعية، وما صحّت لنا القدوة في هذا الدين إلا بمن ماتوا، على أن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يمت كموت الناس، وإنما له حياته التي تمد أمته بالوجود والحياة بإذن الله.

 

علينا أن نعى تماما بأن محبة النبى الكريم هو حق من حقوقه صلى الله عليه وسلم على أمته، وواجب عليهم أيضاً، فينتفي الإيمان بعدم محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أوجب الله محبة نبيه في كتابه العزيز، يقول تعالى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (سورة التوبة 24)

 

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) (البخاري، ومسلم),

 

ولما سمع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الحديث قال للرسول صلى الله عليه وسلم لأنت أحب إلي من كل شيء إلاّ من نفسي، فقال: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر) أي الآن صدقت وحققت الإيمان الكامل بمحبتك لنبيك, وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)-  رواه البخاري,

 

وخلاصة ذلك أن من المؤمنين من يسكن قلبه ويميل للنبي صلى الله عليه وسلم بالمودة والمحبة، وما ذاك إلا بإخلاص الاتباع له صلى الله عليه وسلم دون سواه من البشر.

 

فحب النبي صلى الله عليه وسلم موصل لحب الله تعالى, وقد سُئِل علي رضي الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا، وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.

 

وأخيرا وكمسلم فإنني أرى أن الدين الحق هو دين حياة وعمل ومتعة حياتية بما يتفق بما أمر به الله, وأرى أن توقير النبي الكريم وتعظيمة قائم في كل زمان ومكان, وأدرك تماما أن محبته نبراسا في حياتنا وسنته الكريمة دستورا تطيب به دنيانا وسيرته العطرة دربا نهتدي به من ظلمات التغريب ,طبت حيا وميتا يا رسول الله.

د. محمود حجازي

من د. محمود حجازي

كاتب مصري، وباحث في دراسات الشرق الأوسط بالولايات المتحدة